فصل: البـاب الرابـع في آداب القـضـاة.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


البـاب الرابـع في آداب القـضـاة‏.‏

وهي‏:‏ خمسةَ عشر أدباً‏.‏

الأدب الأول‏:‏ موضع جلوسه، وفي الكتاب‏:‏ القضاء في المسجد من الحق والأمر القَديم، ولأنه يرضي فيه بالدُّون من المجلس، وتصل إليه المرأة والضعيف، ولا يقيم فيه الحدود ونحوها بخلاف خفيف الأدب، وأصله‏:‏ قوله تعالى ‏(‏وَهَل أَتاكَ نَبَؤا الخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الِمحْرابَ‏)‏ وقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ والخلفاء بعده فيه، واستحبه ‏(‏ح‏)‏ وابنُ حنبل وكرهه ‏(‏ش‏)‏ لما في الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏جنبوا صبيانَكم مساجدَكم ومجانينكم ورفعَ أصواتِكم، وخصوماتكم، وحدودكم، وسَلَّ سِيوفِكم، وبيعَكم وشراءَكم‏)‏ ولأن الخصومة يتبع فيها الفُجُورُ والتكاذب والسب والظلم والحائض والجنب يدخل إليه، وأرباب القاذورات، ولم يوضَع المسجد لذلك‏.‏ الجــواب‏:‏ أنّ العمل مخَصّص لهذا العموم، وأما الحُيّض فيمنعن ويُوكّلن، أو يأتين الحاكم في بيته‏.‏ والجنب يغتسل جمعاً بين الأدلة، وفي الترمذي‏:‏ قال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏مَن ولي من أمور الناسِ شيئاً فاحتجَب دون حاجتهم احتجب الله دون حاجتِه وفَقرِه وفَاقَته‏)‏ والمسجد أبعد عن الحجاب وأقرب للتواضع فيستحب، قال التونسي‏:‏ قال مطرف وعبد الملك‏:‏ أحسن مجالس القاضي رَحَباتُ المسجد الخارجة من غير تضييق في غيرها، قال مالك‏:‏ كان من أدركتُ من القضاةِ لا يجلسون إلاّ في الرحبات خارجاً إما عند موضع الجنائِز، وإمَّا في رَحْبة دار مروان، وما كانت تسمى إلا رحبة القضاء، ويستحب ذلك ليصل إليه اليهودي والحائض، قال اللخمي‏:‏ قال ابن شعبان‏:‏ ومن العدل أن يكون منزل القاضي وسط المصر ليصل الناسُ إليه من جميع الأطراف بغير كلفة‏.‏ ويكون مجلسُه مستقبل القبلة، وفي موضع جلوسه ثلاثة أقول، ففي المدونة‏:‏ المسجد، وعنه‏:‏ الرحاب الخارجة، ونقل جميع ما تقدم التونسي‏.‏ وقال أشهب‏:‏ لا يُؤمر أنْ يقضي في منزله، حيث أحب، قال اللخمي‏:‏ والرحاب أحسن، لأن المسجد ينزه عن الخصومات وغيرها للحديث المتقدم، قال صاحبُ المنتقى‏:‏ المستحب الرحاب الخارجة عن المسجد، قال أشهب‏:‏ يقضي حيثُ جماعةُ الناس وقال غيره‏:‏ إلاّ أن يدخل عليه في ذلك ضرر من كثرة الناس حتى يشغله ذلك عن النظر والفهم فليكن له موضع في المسجد يحول بينه وبينهم، واتخذ سحنون بيتاً في المسجد يقعد فيه الناس، ولا يقضي في طريق ممره إلاّ أن يعْرض لمَن استغاث به فيه، فيأمر فيه وينهَى من غير فصل حكم، قاله مطرف وعبد الملك‏.‏ وعن أشهب‏:‏ يقضي وهو يمشي إذا لم يشغَلْه ذلك، كما يقضي وهو مُتكِئ‏.‏ قال صاحب المقدمـات، ويستحب جلوسهُ بالرحاب الخارجة عنه، فوافق الباجي ولم يحك خلافاً، وكلام الباجي وابنِ رشد هذا دليل على أنهم فهموا أَنّ المشهور ما قالوه، ويعضده قوله‏:‏ كان ممن أدركتُ من القضاة لا يجلسون إلا في الرحبات‏.‏ فدَلَّ أنّ العملَ ذلك، والعمل عنده مقدم، وظاهر المدونة يقتضي داخل المسجد لقوله لا تُقام فيه الحدود، والحدود تقام في غيْر المسجد إجماعاً، في المواضع التي يدخلها الحيَّض واليهودُ‏.‏

الأدب الثاني‏:‏ زمان جلوسه، قال صاحب المنتقَي‏:‏ قال مُطرف وعبد الملِك‏:‏ يتخير وقتاً يجلس فيه على ما هو رفق للناس، ولا ينبغي أن يجلس بين العشائين، ولا في الأسحار؛ إلاّ أن يحدث في تلك الأوقات أمر يُرفع إليه، فهو لابد منه، فيأمرُ وينهَي ويسجن، أما على وجه الحكم مما يشخص فيه الخصوم فلا، لأنها أوقات ضيقة عن ذلك، كالشوارع في البقاع، وجوّز أشهب الحكَم بين العشائين؛ قال‏:‏ فمعنى قولِ مطرف‏:‏ إنه ليس عليه ذلك لما في إحْضار البينات على الطالب والمطلوب من مخالفة العادة، وهو معنى قول أشهب‏:‏ إنه يباح له ذلك لأن ترك ذلك حق من حقوقه قال‏:‏ والأول أظهر، وقد شاعت الآجال في القضاء والآمال واستقصاء الحجج، وهو ينافي القضاء بالليل، ولا يُتعب نفسَه فيقضي النهارَ كله، وليقعُد ساعات من النهار، قال مالك‏:‏ أخاف أن يُكثَر فيخطئ قال ابن يونس‏:‏ قال أشهب‏:‏ يقضي بين العشائين إذا رضي الخصمان، ولا يكلف الكافة، ولا بأس أن يقضي بعد أذان الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، قال التونسي‏:‏ قال ابن عبد الحكم‏:‏ لا ينبغي أنْ يجلس أيامَ النحر ولا يومَ الفطر ولا ما قَارَبه مما يضر فيه بالناس في حوائجهم، وكذلك يومَ عرفة ويومَ الطين والوحَل ويومَ خروج الناس للحج بمصرَ لكثرة من يشتغل يومئِذ بتوديع الحاج، قال اللخمي‏:‏ ويكون وقته معيناً لا يقدمه ولا يؤخره ليعلمه الناس وكل الأوقات التي قيل‏:‏ لا يجلس، يجلس إذا عرضت ضرورة‏.‏

الأدب الثالث‏:‏ وأول ما ينظر فيه بعد ولايته‏:‏ المحبوسون، لأن الحبس عذاب، قال في الجواهر‏:‏ فيُطلق مَن حُبس في ظلم أو تعزير وبلغ حده، ثم ينظر

في الأوصياء وكوافل الأطفال إذْ رافعَ لوقائعها إليه، قال أصبغ‏:‏ ينبغي له إذا قعد للقضاء يأمر منادياً ينادي عنه في الناس‏:‏ أنّ كل يَتِيمٍ لم يبلغُ ولا وصي له ولا وكيل، وكل سفيه مستوجب للولاية مَنعت الناس من مُتاجَرَته ومداينته، ومن عَلم مكان أحد من هؤلاء فلْيرفعْه إلينا لنولي عليه ويحجر، فمن دايَنَه بعد منادي القاضي أو باع منه أو اتباع فهو مَردود‏.‏

الأدب الرابع‏:‏ في الجواهر‏:‏ بعد النظر في المحبوسين، ومن نكر معهم، ينظر في ترتيب الكتاب والمزكي والمترجم، ويكون الكاتبُ عدلاً مرضياً، قال أصبغ‏:‏ ويكون مرضياً مثله أو فوقه، لأنه يخشى تغير القضاء وتبديل الأسماء والتتميم على القاضي، ولا يغيب له على كتاب احتياطاً، ويشترط العدد في المزَكي والمترجم دون الكتاب، لأنه استبان حكما، والكاتب كالآلة للحاكم وقال أبو إسحاق‏:‏ لو ترجم له واحد جاز، لأنه من باب الخير لا من باب الشهادة أو من باب الحكم، والحاكم يكفي فيه واحد، واختار القاضي أبو الحسن‏:‏ إن كان الإقرارُ بالكافي في الترجمة شاهداً وامرأتان وروَى أشهب‏:‏ يترجم لِلقاضي رجل مسلم مؤمن واثنان أحب إلينا، ولا يترجم كافر ولا عبد ولا مسخوط لأنه يعتمد على قول المترجم فاشترط شروط الشهادة، ولا بأس أن يَقبَل ترجمة امرأة عَدْله كالرواية، وعن مطرف وعبد المَلك‏:‏ ذلك إذا كان مما تقبل فيه شهادة النساء إذا تعذر مترجم من الرجال قالا‏:‏ وامرأتان ورجل أحب إلينا، وأصل الكتاب‏:‏ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان له كتاب‏:‏ علي بن أبي طالب، وزيد ابن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه عنهم- أجمعين، ولأن الحاكم كثيرُ الأشغال والنظر فلا يتفرغ يكتب بيده، ووافقنا الأئِمة على السلامة وعدالته، وقالوا‏:‏ يكون فقيهاً فطِناً فاضلاً ليفرق بين مواقع الألفاظ والواجب والجائز‏.‏

ونزيهاً لئلا يستمالَ بالرُّشَي وبنوع غيرها على التحامل على أحَد الخصمين، وأما المترجم عَن الخصوم والشهود‏.‏ فيشترط فيه ذلك واشترط ‏(‏ش‏)‏ كونَه اثنين، واكتفي ‏(‏ح‏)‏ بواحد، ومنع العبد لأن تلايته إخبار لا شهادة، لأنه لا يحتاج أن يقول‏:‏ أشهد أنه يقول كذا، بل يقول‏:‏ هو يقول كذا، وقياساً على المفتي، وقاسه ‏(‏ش‏)‏ على ما إذا شهد على إقراره، لأنه لا فرق بين عدم الفَهم من القاضي وبين عدم اطلاعه، وهو إذا لم يطلع اشترط اثنان فكذلك إذا لم يفهم‏.‏

قاعــدة‏:‏ يقع في كلام الفقهاء كثيراً منشأ الخلاف‏:‏ التردد بين الشهادة والخبر، فما ضابط حقيقة الشهادة وَالخبر‏؟‏ لأن التردد بينهما فرع تصورِهمَا، ولا يمكن أن يضبطا، فاشتُرط العدد في الشهادة دون الخبر، لأن اشتراطه فرع عن كونها شهادة فيجب أن يعلم أنها شهادة قبل اشتراط العدد، فلَو استفدناها من العدد لزم الدورُ، فنبين الآن الحقيقتين فنقول‏:‏ متعلق الخبر في الشرع من العدل، حيث اعتبره الشرع في حق الغير احترازاً من الدعوى، إما أن يكون عامّاً أو خاصاً فإن كان عامَّاً‏:‏ فهذا هو الخبر، والرواية فإنها متعلقة بالخلق إلى يوم القيامة وهو سر عَدم اشتراط العدد، فإن اشتراطه في الشهادة إنما كان لتوقع العداوة الباطنة بين العدل وبين الشخص المعيَّن، فاشتُرط العدد استظهاراً، ولا يتهم أحد في معاداة الناس إلى قيام الساعة، فالعموم سرُّ عدمِ اشتراط العدد، وهو ضابط الرواية، وإن تَعلق بالخصوص فهو الشهادة، ثم تقع فروع مترددة بين العموم والخصوص، فيختلف العلماء فيها لأجل الشائبتين‏.‏ هل يلحق بالشهادة أو الخبر‏؟‏ كالإخبار عن رؤية رمضان من جهة أنه لا يخص شخصاً معيَّناً أشبه َالروايَة فيقبل الواحد، قاله ‏(‏ش‏)‏، ومن جهة أنه لا يتعدى هذه المسألة أشبه

الشهادة فيشترط العدد، وكذلك المترجم والقائف والمقَدّم، لما تقدم، فهذا الكشف والتحقيق عزيز، كنتُ أطلبه عدة من السنين حتى وجدتُّه للإمام المازري في شرح البرهان في أصول الفقه فتأمله‏.‏

فــرع‏:‏

قال ابن يونس‏:‏ قال مالك‏:‏ يولي حاسباً ثقة يَقسِم ويخبره بما صار لكل واحد، فيقبل قوله وحده، لأنه حاكم أو مخبر‏.‏

فــرع

قال‏:‏ قال عبد الملك‏:‏ يقبل قولُ الطبيب الكافر في العيوب في العبد أو الأمة الحاضرين، لأنه علم يأخذه عمّن يبصره مرضي أو مسخوط واحد أو اثنين، فإن غاب العبد أو مات، لم يقبل إلاّ الشهادة بشروطها، وكذلك يَقبل في عيوب الأمة واحِدَة مرضية من النساء، فإن فَاتت الأمة، لم يقبل إلاّ امرأتيْن على وجه الشهادة، والقياس في الجراح‏:‏ يكفي واحد إذا أمره الإمام ينظر ذلك، والأحسن أن يكون عدلاً، فإن لم يجد إلاّ طبيباً، جاز كما تقدم في العيوب، وما فات لا يقبل منه إلاّ ما يقبل في الشهادة‏.‏

الأدب الخامس‏:‏ في الجواهر‏:‏ لا يقضي في حالة غضب ولا جوع، ولا وحالة يسرع إليه الغضب فيها، أو يدهش عن تمام الفكر‏.‏ وفي الكتاب‏:‏ لا يكثر الجلوس جداً، وإذا داخَلَه هم أو نعاس أو ضجَرٌ فليقم، قال اللخمي‏:‏ ومِن ذلك الشِّبَع الكثير، وأصل ذلك‏:‏ قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏لاَ يقضِي القاضِي وهُو غَضْبَان‏)‏ أخرجه البخاري‏.‏ واختُلف إذا ضجر، قال ابن عبد الحكَم‏:‏ يحدث جلساءَه

ليروح قلبَه، ثم يعود إلى الحكم، وقال ابن حبيب‏:‏ يقوم قال‏:‏ والأول أحسن، ولا يحكم متكئاً، لأنه استخفاف بالحاضرين، وللعلم حرمتهُ‏.‏

تمهـيد‏:‏ قال اللخمي وغيره مِن العلماء‏:‏ له أن يحكم في هذه الأحوال في مسْأَلة نص، وما خف من مسائل الاجتهاد، دون ما يحتاج إلى فكر، وعلى هذا تختلف أحوال الحُكام في المجتهد في العلم والقضاء تَصير له أمور ضرورية هي عند غيره تحتاج فكراً كثيراً، فيبح الأول دون الثاني، وكذلك المسألة العظيمة النظر إذا كان قد تقدم له الحُكمُ فيها عن قرب بِفكر مستوعِب لا يحتاج فيها حينئذ إلَى فكر‏.‏

قاعــدة‏:‏ وهي الفرق بين تخريج المناط، وتحقيق المناط، وتنقيح المناط، والمناط‏:‏ العلة، فإن استُخرجت من أوصاف مذكورة في صورة النص، كما في حديث الأعرابي في تصريحه مع جملة الأوصاف بإفساد رمضان، فهو تنقيح المناط، أو من أوصاف لم تُذكَر كما في حديث بيع التفاضل في البُر، فهو تخريج المناط، أو اتفق عليها وحصل التنازع في وجودها في الفرق فهو تحْقيق المناط‏.‏ كالتنازُع في كون التين مُقتاتاً، مع الاتفاق على أنّ الاقتيات العلة، وقال الغزالي‏:‏ تنقيح المناط‏:‏ قياس عدم الفارق، فعلى هذا يمنع القاضي في الغضب وغيره مما لم يُنَص عليه كالشَّبع والجوع، هو من باب تخريج المناط، لأنا لم يغن وصفاً مذكورة، بل أخرجنا من المذكورة وصفاً آخر، وهو تشويش فكر، وكذلك حديث الأعرابي على مذهبنا، لأنا أخذنا إفساد الصوم، وإنما في الحديث

واقعتُ أهلي في شهر رمضان، وعلى رأي ‏(‏ش‏)‏ يكون من تنقيح المناط، ووافقنا الأئِمة على اعتبار المشوِّش للفِكر حيث وقع بغضب أو غيره‏.‏

الأدب السادس‏:‏

قال اللخمي‏:‏ يقدم الخصوم الأول فالأول، لأن الأول قد استحق بسبقه، وكذلِكَ قاله الفقهاء في تعليم العلم والقرآن ونحو ذلك، يقَدم الأول فالأول، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏والسابٍقُونَ السًابِقُونَ أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ‏)‏ قال‏:‏ إلاّ أن يكونَ مثلَ المسافر، وكالسبق إلى المجالس، والأمور المباحات، أو ما يخشى فواتُه، وإنْ تعذرت معرفة الأول كُتبت أسماؤهم في بطائق وخُلطت فمَن خَرج اسُمه بدئ به، وذلك كالقُرعة، لأنه تطييب لِلنفوس‏.‏

فـــرع

قال الشافعية والحنابلة‏:‏ لا يقدم في الدعاوى والفتائك إلاّ بدَعوى واحدة، وقاله صاحب النوادر عن سحنون، فإذا قال الأول‏:‏ لي آخر‏:‏ قدم عليهما الأول عليه، ويقدم في الثانية على ما يأتيه من بعده، لأن الجميع قدموا في واحدة، فلو قدم واحد في اثنتين لم يسوّ بينهم، والتسويةُ مأمور بها لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله يَأمُرُ بِالعَدْلِ‏)‏ وَالعدل‏:‏ التسوية بالنقل، ووافقونا على تقديم المسافرين بشرط القِلة، لأن الله تعالى وضع عنهم الصوم وشطْر الصلاة‏.‏

الأدب السابع‏:‏

قال اللخمي‏:‏ يفرد النساء عن الرجال في الخصومة إذا كانت الخصومة بينهن، ويجعل لهن وقتاً، فإن كان بعضُها بينهم، وبعضُها مع الرجال‏:‏ جعل الخصومة ثلاث مرات، للرجال وقت، ولمن كانت خصومتُه من النساء وقت، وللنساء وحدَهُن وقت، فإن عجز عن ذلك عن النساء، وأبعد مجلسهن عن

الرجال، وتمنع المرأة الجميلةُ الرخيمة المنطق مباشرةَ الخصومة فقط، وكره مالك الخصومة لذوي الهيئات من الرجال لِمَا فيها من نقص العرض، فالنساء أولى‏.‏

الأدب الثامـن‏:‏

قال ابن يونس‏:‏ ينصف بينهما مجلسهما، والنظر إليهما، واستماعه منهما، ولا ينظر إلى أحدهما بطلاقة وبشر أكثر، ولا يسارر أحدهما، ولا يساررهما جميعاً إذا لم يَسمع أحدُهما ما يسارر به الآخر، قال سنحون‏:‏ ولا يضيف أحدهما، ولا يخلو به أو يقف معه، فإن ذلك مما يُوهن خصمَه ويدخل عليه سوء الظن، قال أشهب‏:‏ ولا يجيب أحدهما في غيبة الآخر، إلاّ أن يعرف أنّ ذا من المختلف أو لم يكن يعرف وجه خصومة المدعي فيسمَع َمنه حتى يعلم أمرهما، وإذا جلسا فلا بأسَ أن يقول لهما‏:‏ ما خصومتهما، أو يدعهما حتى يبتدآها، أو يقول‏:‏ أيكما المدعي، فإن علمه سأله عن دَعواه، ويسكت عن صاحبه حتى يسمع حُجته، ثم يأمره بالسكوت، ويستنطق الآخر، ولا ينبغي أن يبدئ المدعى عليه بالنطق بل المدعي، لأن صاحب الحق أرجح شرعاً فيقدّم ولا يعود لأحدهما بالسؤال فيقول‏:‏ مالك‏؟‏ أو تكلم، إلاّّ أن يعلم أنه المدعي، وإذا قال أحدهما‏:‏ أنا المدعي وسَكَت الآخر ولم ينكر، فلا بأسَ أن يسأله عن دعواه، والأحسن أن يسأله حتى يقر الآخر بذلك، فإن قال أحدهما‏:‏ المدعي هذا ولم ينكر الآخر، فله أن يسأله، فإن قال كل واحد عن الآخر‏:‏ هو المدعي ولَستُ مدّعياً فللقاضي أن يقيمَها حتى يأتي أحدُهما للخصومة فيكون هو الطالب، قاله أصبغ، وقال ابن الحكَم‏:‏ إذا قال كل واحد‏:‏ أنا المدعي، فإن كان أحدهما استمعَ أو جَلَبَ الآخر، سمع منه أولاً، وإن لم يدر مَن جَلَب صاحبَه، ابتدأ بأيهما شاء، فإن كان أحدُهما ضعيفاً فأحبُّ إليَّ أن يبدأ بالآخر، لأن الظاهر هو القوي الطالِب‏.‏

قال أصبغ‏:‏ فإن أدلَى المدَّعي بحجته‏:‏ فقال القاضي للآخر‏:‏ تكلم فإن تكلم نَظَر في ذلك، وإن سكت أو قال له‏:‏ أخاصمه إليك‏:‏ قال له القاضي‏:‏ إما خاصمتَ أو حلفت لهذا المدعي على دعواه، وحكمت له إن كان مما يستحق من نكول المطلوب إن ثبُتت له الخلطة، لأن نكوله عن التكلم نكول عن اليمين، وإن كان مما لا يثبت إلا بالبينة‏:‏ طلب البينة ولا يسجنه حتى يتكلم، ولكن يسمع صاحبه لأن البينة تحتمل التخريج من قبله، وكان سحنون إذا شاغب الخصمان أغلظ عليهما، وربما أمر القومة فزجروهما بالدرة، وربما شاغبا حتى لا يفهم عنهما فيقول‏:‏ قوما فإني لا أفهم عنكما، وله الشد على عضد أحدهما إذا رأى ضعفه عن صاحبه وقربه منه، ولا بأس أن يلقنه حجة له عمي عنها، وإنما يكره أن يلقنه حجة الفجور، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏من ثبت عييا في خصومة حتى يفهمها ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام‏)‏ ومنع سحنون شد عضد أحدهما، وتلقينه حجته؛ لأنه ميل مع أحدهما، وإذا أقر أحدهما في خصومته بشيء للآخر فيه منفعة؛ فعلى الحاكم أن ينبهه على نفعه بذلك، ويكتبه له‏.‏ قال سحنون‏:‏ إذا كان في أمرهما شبهة وإشكال فلا بد أن يأخذهما بالصلح، وتخاصم رجلان صالحان من أصحابه، فأقامهما ولم يسمع منهما وقال‏:‏ استرا على أنفسكما ولا تطلعاني من أموركما على ما ستر عليكما، وقال عمر - رضي الله عنه -‏:‏ رددوا القضاء بين ذوى الأرحام حتى يصطلحوا‏.‏ فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن، وكان سحنون إذا سأله أحد عن مسألة من مسائل الأحكام لم يجبه وقال‏:‏ هذه مسألة خصومة إلا أن يعلم منه إرادة التفقه‏.‏

قال مالك‏:‏ لا يفتي القاضي في مسائل القضاء، وأما غير ذلك فلا بأس، لأنه عون على البخيل والقاضي لا يعين أحد الخصمين، ولا يرفع الحاكم صوته على

أحدهما دون الآخر، قال أشهب‏:‏ له أن يفعله ردعاَ له لَلَدَده، ويعلم الله منه أنه لو كان من صاحبه ذلك؛ لعمل به مثله، فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد الخصمان بين يدي الحاكم، وقال‏:‏ ‏(‏إذا ابتلي أحدكم بالقضاء بين السلمين فلا يرفع صوته على أحد الخصمين دون الآخر‏)‏ وفي النوادر‏:‏ قال أشهب‏:‏ جلوس الخصوم بين يديه هو الأصل، فإن كان شأنه يجلس في أي موضع فواسع، فإن عين المجلس لصداقة أو غيرها أجلسهما منه مجلساَ واحداَ، ولا يضيف أحد الخصمين ولا يخلو به ولا يدخل عليه أحد الخصوم بينه، وإن كان من إخوانه وقد كان يغشاه قبل ذلك، إذا كان على الاختصاص ليس أمراَ عاماَ ولا تكره له عيادة أحد الخصمين، ولا شهود جنازة بعض أوليائه، قال عبد الملك‏:‏ ولا يدخل عليه أحد الخصمين في مجلس قضائه، ولا وحده ولا في جماعة، وإن كان من خاصته، وليجلس خارجاَ حيث يأتيه الناس لأن ذلك كله موهن للآخر‏.‏ قال اللخمي‏:‏ قال أصبغ‏:‏ يسوي بينهما في المجلس وإن كان أحدهما ذمياَ، وقيل لا يسوي، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏لا تساووهم في المجلس‏)‏ قال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ وأرى أن يجلسا جميعاَ ويتقدمه المسلم بالشيء اليسير واقفا، فإن قال أحدهما أنا الطالب وإنما أحدث الآخر الدعوى عند ما طلبته قد المشخص أولى، أو الثالث أولا إن علم، وإلا صرفهما، فإن أبى أحدهما إلا الخصومة قدمه، وإن

بقي كل واحد متعلقاَ بالآخر أقرع بينهما، وإن كان لكل واحد طلب عند الآخر وتشاحاَ في التبدئة أقرع بينهما لأنه أطيب للنفوس، وقيل‏:‏ يخبر، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ يبدأ بالنظر أضعفهما، فإن لم يعترف المدعى عليه ولم ينكر‏:‏ قال محمد‏:‏ يحكم عليه بغير يمين، وقال أصبغ‏:‏ يقول له الحاكم‏:‏ إما أن تختصم أو حلفت المدعي وحكمت له إن كان مما يستحق بالنكول مع اليمين إذا أثبت لطخاَ، قال اللخمي‏:‏ المدعي مخير ثلاث بين أن يأخذ المدعى به بغير يمين على أنه متى عاد المدعى عليه إلى الإنكار أو الخصومة كان ذلك له، أو يحلف الآن ويحكم له بعد أن يعرف المدعى عليه ذلك، ولا ينقض له الحكم بعد ذلك إن أتي بحجة إلا ببينة لم يعلم بها، كمن خاصم ولم يسكت أو يسجن له حتى يقر أو ينكر؛ لأنه يقول‏:‏ هو يعلم أن حق، وقد يقر إذا سجن فلا أحلف، كالمشتري يكتم الشفيع الثمن، اختلف فيه، يسجن أو يقال للشفيع‏:‏ خذ ولا وزن عليك حتى يثبت الثمن، وهذا إذا كانت الدعوى في معين، داراَ أو عبدا، وفي الذمة وأقام لطخا، وإن لم يقم لطخاَ لم تسمع دعواه‏.‏ وإن ادعت الزوجة الطلاق فلم يقر ولم ينكر سجن، ويحال بينه وبينها، وتطلق عليه إن طال الأمر لحقها في الوطء، فإن ادعت النكاح سجن، حتى يقر أو ينكر وإن ادعى عليها نكاحاَ فلم تقر ولم تنكر؛ حيل بينها وبينه حتى تقر أو ينكر، وكذلك السيد يدعي عليه عبد العتق، يسجن حتى يقر أو ينكر، وإذا لفظ أحدهما بما ينفع الآخر فأغفل منفعته فيه، فعلى الحاكم أن يقول لقائل ذلك‏:‏ يلزمك على قولك كذا، ولا يقول لخصمه‏:‏ قل له كذا، لأنه تعليم أحد الخصمين بالعناية له يوهن الآخر، وليس كقوله له‏:‏ يلزمك كذا، لا حجة لك في قولك، فإذا لم يبق لأحدهما حجة، فإن قال‏:‏ بقيت لي حجة، قال محمد‏:‏ إن كان من طريق العدد ضرب له أجلاَ ليس بالبعيد، وإذا ادعى حجة قوية في دار في يديه أمهله الشهرين والثلاثة

تمهيد‏:‏ وفي كتاب ابن سحنون وغيره كتاب عمر - رضي الله عنه - لأبي موسى الأشعري، في فصول القضاء، ينبغي أن يحفظ أوله‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك‏.‏ أما بعد‏:‏ فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك الخصم بحجته فاقض إذا فهت وأنفذ إذا قضيت، فإن لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا بيأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراماَ أو حرام حلالا، وإذا عرفت أهل السغب والإلداد فأنكر وغير، فإنه من لم يزغ الناس عن الباطل، لم يحملهم على الحق، لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ‏(‏وقاتل هواك كما تقاتل عدوك، واركب الحق غير مضار عليه، وإذا رأيت من الخصم العي والغباوة فسدد فهمه، وبصره في غير ميل معه، ولا جور على صاحبه، وشاور أهل الرأي من جلسائك وإخوانك‏)‏ الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمر عند ذلك، واعمد إلى أقر بها إلى الله وأشبهها بالحق ‏(‏فيما ترى‏)‏ واجعل لمن ادعى حقا غائباَ أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له

حقه، وإلا استحللَتَ عليه القضاء، فإنه أنفَى لِلشك وأجلى للعمى، المسلمون عدول بعضُهم على بعض، إلا محدوداََ في حَدَ أو مجرباَ عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكمْ السرائِر ودرأ عنكم الشُبُهات‏(‏والأيْمان‏)‏ وإياك والَقلَق والضجَر والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن عليه الذخر ويروى‏:‏ الذكر لِمَن صَحت نيُته، وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس مما يعلم الله أنه ليس من نفسه شَانَه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام‏.‏ فهذا الكتاب جمع أكثر أدب القضاء وأحكامه‏.‏

فوائـــد‏:‏ هذه ولأية نبين تقليدها، واللفظ المفيد الولاية شرعَا، وما معنى الإدلاء، وما الفرقُ بين التنفيذ والحكم‏؟‏ وما معنى‏:‏ الحق قديم‏؟‏ وما معنى‏:‏ اركب الحق غير مضار عليه‏؟‏ وكيف جعل المسلمين عُدوَلا من غير كشف، واكتفى بالعدالة الظاهرة كما قاله ‏(‏ح‏)‏‏؟‏ وما معنى النهي عن التنكير عند الخصومات‏؟‏ وما معنى‏:‏ من تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله، وما الجمع بينه وبين قول أبي موسى الأشعري‏:‏ إنا لنُكشِر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم‏؟‏

والجواب عن الأول من وجهتين‏:‏ لعل عقد الولاية تقدم، وهذا للوصية فقط أو في ألفاظه ما يقوم مقام عقد الولاية، وهو قوله‏:‏ إذا أدلى إليك، وقوله‏:‏ استحللت عليه القضية، ونحو ذلك‏.‏

وعن الثاني‏:‏ معناه‏:‏ أوصل إليه حجته، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أدلى َدلْوَه‏)‏ أي أوصله لغير‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن إظهار الحجة الشرعية وكمال النظر فيها، وإثبات وترتيب مقتضاها عليها من اعتقاده الاستحقاق وتصريحه بتلك حكم، وإلزام الخصم وقهره لرفع الحق تنفيذ، فهذا هو الفرق بين الإثبات والحكم والتنفيذ‏.‏

وعن الرابع‏:‏

أن الحق هاهنا حكم الله، وهو كلامه النفساني، وهو قديم، وفيه إشارة إلى أن المصيب لذلك أحكم، ففيه حض على بذل الجهد في طلب ذلك الحكم المعين، أو يكون كلامه إشارة إلى أن بذل الجهد في طلب الحق وهو ما زال في جميع، فهو قديم بمعنى طول المدة لا بمعنى انتفاء الأولية‏.‏

وعن الخامـس‏:‏

أن معناه‏:‏ أن يتمكن من الحق بانشراح صدر وطيب نفس، سالمًا عن شغب الأهواء، فإن الركوب يعبر به عن التمكن، ومن كان ينازعه هواه ويكاد يغلبه الهوى، فهو مضار في سلوك الحق، فعلامة إشارة إلى توفير العزم‏.‏

وعن السادس من وجهيـن‏:‏ أحدهــما أن ذلك مذهبه فأخبر به، لا أنه أمر به، وثانيهما‏:‏ أن المسلمين عدول بعد الكشف بخلاف الكفار، وقيل‏:‏ إنما قيل ذلك في عصر الصحابة حيث يغلب الخير، فيلحق النادر بالغالب، وأما اليوم فغلب الشر، فيلحق الغالب بالنادر فينعكس الحال‏.‏

وعن السابــع‏:‏

أن التنكر المراد به‏:‏ الغضب الملهي عن الفكر‏.‏

وعن الثــامن‏:‏ أنه محمول على إظهار الطـاعات والباطن بخلافه، وكلام أبي موسى محمول على المدارة بالكلام، والأمور المباحة دفعا للشرور واسجلاباَ للمصالح، ووافقنا الأمة على ما تقدم في هذا الأدب‏.‏

الأدب التـاسـع‏:‏ تأديب الخصوم، ففي الكـتاب‏:‏ لا بأس بضرب الخصم إذا تبين لدُده وظلمه، قال ابن يونس‏:‏ وكذلك إذا أذى القاضي نفسه، لأن حرمة القاضي من حق الله، والأدب في هذا أمثل من العفو، قال مطرف وعبد الملك‏:‏

إذا قال أحدهما للأخر‏:‏ يا فاجر، ويا ظالم، ضربه على مثل هذا إلا في الفلتة من ذي مروئة، فإن قال للشاهدين‏:‏ شهدتما علي بزور أو بما يسألكما الله عنه، أو لستما عدلين، يعاقب في ذلك بحسب قدر القائل والمقول له، فإن قال للقاضي‏:‏ اتق الله، قال ابن عبد الحكم‏:‏ لا يضيق عليه في ذلك، وليثبت ويجب يبين، مثل‏:‏ رزقني الله تقواه، أو ما أمرت إلا بخير، ويبين له من أين يحكم عليه، ولا يظهر غضبا، قال ابن القاسم‏:‏ فإن قال‏:‏ ظلمتني، فذلك يختلف، فإن أراد بذلك أذى القاضي، والقاضي من أهل الفضل، عاقبه، لأن حرمته من حرمه الله وحرمة رسوله‏.‏

الأدب العــاشـر‏:‏ في جلسائه ومباشريه، قال اللخمي‏:‏ لا يكون وكلاؤه وحجابه إلا عدولا، لأنه يعتمد عليهم في أمور كثيرة، ويكونون ذوي رفق وأناة، لورود الضعيف والمظلوم عليهم، ويباشرون النساء الواردات للحكومة، ويؤتمنون على الحديث معهم، فإذا اطلعوا على أسرار القاضي فيما يريد من حكومة، فلا ينقلونها لأحد الخصمين، وكذلك جلساؤه، ويكونون أهل دين وأمانة ونصيحة، واختلف في جلوس العلماء عنده، فاختار محمد حضورهم ومشاورتهم، وكان عثمان رضي الله عنه يخص أربعه من الصحابة ويستشيرهم، فإذا رأوا ما رآه أمضاه، وقاله أشهب، ومنع مطرف وقال‏:‏ إذا ارتفع عن مجلس القضاء شاور، قال

اللخمي‏:‏ ذلك يختلف إن كان لا ينحصر بحضورهم، وإلا فلا إلا أن يكون القاضي مقلدا فلا يسعه القضاء بغير حضورهم، قال محمد‏:‏ ولا يدع مشاورة الفقهاء عند ما يتوجه الحكم، ولا يجلس للقضاء إلا بحضور عدول؛ ليحفظوا إقرار الخصوم خوف رجوع المقر، وإن كان ممن يقضي بعلمه، فإن أخذه بما لا خلاف فيه أولى، قال التونسي‏:‏ قال سحنون‏:‏ لا ينبغي أن يكون معه من يشغله عن النظر فقهاء أو غيرهم، فإن ذلك يدخل عليها الحصر والوهم، وكان عمر رضي الله عنه لا يحضر عنده الفقهاء، وإذا شهد العالم في شيء فلا يشاور ذلك العلم في ذلك، ولا يجوز له أن يشاوره فيما شهد فيه، وفي الجواهر‏:‏ قال ابن الحكم‏:‏ لا ينبغي ترك المشاورة، ولا يدخله عيب ولا استنكاف، فإن سلف هذه الأمة وخيار الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يسألون عما نزل بهم فهذا أبو بكر رضي الله عنه يسأل عن الجدة، وكان عمر رضي الله عنه يأتي زيد ابن ثابت يسأله في أمر الجد وميراثه، وسأل عمر أيضاَ عن ميراث المرأة من دية زوجها، ولا يفتى فيما يختصم إليه فيه إلا للمتفقهين، واختار ابن عبد الحَكم الفتيا في جميع ما يسأل عنه، لأن الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - كانوا يفعلون ذلك، ولا بأس أن يجلس القاضي في مجلس العلم فيعلم أو يتعلم، وعند ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏‏:‏ يحضر بمجلسه العلماء ويشاورهم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر‏)‏ وشاور في أمر الخندق وغيره وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهم‏)‏‏.‏

الأدب الحــادي عشــر‏:‏ استيفاء الحجج، ففي الكتاب‏:‏ إن أدليا بحجتهما، وفهم عنهما، وأراد أن يحكم فليقل‏:‏ أبقيت لكما حجه‏؟‏ فإن قالا‏:‏ لا، حكم بينهما، ثم لا يقبل إلا ما له وجه وبينه لم يعلم بها، أو أتى بشاهد عند من لم ير الشاهد واليمين، ثم وجد شاهدا أخر وقال‏:‏ لم أعلم به‏.‏ وفي التنبيهات‏:‏ قال ابن محرز‏:‏ جعل فهمه مقام ما يسمعه، قال القاضي‏:‏ وليس المراد هذا، وإنما فهم عنهما وأسمعه؛ انتفت الريبة عنه والاحتمال، قال أشهب وسحنون‏:‏ لا يقضي بما فهمه من لحن خطابهما ولا بما يظنه في هذا هو الفهم الذي أراده في الكتاب، وقوله‏:‏ أبقيت لكما حجه‏؟‏ قيل‏:‏ صوابه من ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ المحكوم وعليه اختصرها ابن محمد ومن اتبعه، وأما الطالب فهو يطلب الحكم، وقيل‏:‏ القول لهما، لأن المطلوب إذا أبدى حجه يسأل الطالب عن جوابها، فكأنه قال‏:‏ أبقى لكما كلام أنظر فيه‏؟‏ قال‏:‏ والأحسن‏:‏ أنهما اثنان، طالب ومطلوب، فمرة يتوجه الحكم على المطلوب، ومرة على الطالب بتعجيزه للمطلوب ودفعه عنه، فقوله‏:‏ أبقيت لكما حجه، لما كان يقول ذلك لكل واحد منهما منفردا إذا توجه عليه الحكم اختصر الكلام ولفه في لفظ واحد، وأيضا فقد يبقى للطالب حجه يدفع فيها عنه، وظاهر قوله‏:‏ إذا جاء شاهد آخر يقضي له القاضي الأول وغيره، وفي الموازية‏:‏ إنما هذا للقاضي نفسه، ولا يسمع منه غيرة، ولسحنون‏:‏ لا هو ولا غيرة، قال ابن يونس‏:‏ فإن قالا‏:‏ لا حجه لنا، لا تقبل لهما حجه بعد إنقاذ الحكم، وإن قال‏:‏ بقيت لي حجة فأمهله فلم يأت بشيء‏:‏ حكم عليه، ومعنى قول من قال‏:‏ لا ينظر في الشاهد إذا أتى به غير الأول، لأن الأول قد اجتهد فلا ينقص، لئلا يكون للثاني وصي على الأول، وفي المجموعة‏:‏ إذا قضى عليه ثم وجد بينه لم يعلم بها، وقد عزل الأول، حكم له بها الثاني كما لو

كانت غائبة غيبة بعيدة فحكم عليها ثم قدمت، فله القيام بها، فالجهل بها كالغيبة، وينبغي أن يكتب في قضيته‏:‏ إنه ذكر أن له بينه بعيدة الغيبة، فمن أحضر شهوده فهو على حُجته‏.‏ وعن عبد الملك وغيره‏:‏ إذا حكم بشاهد من بعد الاجتهاد في الكشف عنهما لم ينتقض بشيء مما يقدح فيهما إلا أن يكونا عبدين أو مسخوطين أو مولى عليهما أو ممن يستحقان الولاية عليهما، وقاله أشهب قال اللخمي‏:‏ إذا قال‏:‏ بقيت لي حجة‏:‏ قال محمد‏:‏ إن كان من طريق اللدد ضرب له أجلا ليس بالبعيد، ثم يحكم عليه، وإن ذكر حجة قوية في دار ونحوها‏:‏ فنحو ثلاثة أشهر‏.‏

الأدب الثاني عشـر‏:‏ في الاسجال عليه بما ثبت، قال اللخمي‏:‏ ومن حق الطالب إذا توجه له الحق أن يكتب له قضيته بما ثبت له، وسبب الثبوت من بينه أو يمين أو نكول أو سقوط بينه إن ظهرت، لأنه يخشى أن يقوم علية بعد ذلك بها، واختلف فيه المدعى عليه إذا لم يثبت علية بتلك الدعوة شئ، قال عبد الملك‏:‏ ليس ذلك على القاضي، وقال مطرف، يكتب له حتى لا تعود الخصومة في ذلك، واختلف إذا أتي بعد ذلك بمن يزكيها، أو عدلين‏:‏ فعند مالك وابن القاسم‏:‏ يقبلان، لأن العجز لا يبطل الحق وعند مطرف‏:‏ لا يقبل إلا في ثلاث‏:‏ العتق، والطلاق، والنسب، لأن فيها حقوقًا لغيرها الحاضر، فحقوق الله تعالى في الطلاق والعتاق والأنساب متعددة، وكذلك الولاء، وفي الجواهــر‏:‏ يكتب في الاسجال‏:‏ أسماء البينة وأسماء المتداعيين وأنساب الجميع وما يعرفون به، وما حكم به، ويحتفظ به في خريطة، ويختم علية، ويكتب علية خصومة كل شهر حدة حتى يتيسر الاخراج‏.‏

الأدب الثالث عشـر‏:‏ أرزاقه وأرزاق أعوانه، قال ابن يونس‏:‏ جلس سحنون للناس احتسابًا وقال‏:‏ لو اعطيت جميع بيت المال لأخرته من غير تحريم، وأخذ لأعوانه وكاتبه وكل من استعدى أعطاه طابعًا، فإذا جاء بخصمه رد الطابع وفي

الكتاب‏:‏ أكره إجارة قسام القاضي، فإن وقع ذلك كان على عدد الرءوس لا على

الأنصباء، إذا لم يشترطوا بينهم شيئًا، قال ابن يونس‏:‏ ليس بحرام بل يكره؛ لأن خارجة وزيدًا كانا يقسمان بغير أجر، وفي النوادر من الواضحة‏:‏ حق على الإمام أن يوسع على القاضي في رزقه، ويجعل له قومة يقومون بأمره، ويدفعون عنه الناس، وأثمان الرقوق والسجلات، ولا ينبغي أن يأخذ رزقه إلا من الخُمس أو الجزية أو عشور أهل الذمة إن جُبيت بغير ظلم، ولا يرزق من الزكاة، لأنه ليس من اصنافها، وإن ولي فقير اغني ووفي عنه دينه، ويكفى جميع ما يحتاج إليه، قال سحنون‏:‏ وله تكليف الطالب صحيفة يكتب فيها حجته وشهادته، قال مالك‏:‏ لا بأس بأرزاق القضاة من بيت المال، وكذلك العمال إن عملوا على حق، قال أشهب‏:‏ فرزق كل واحد على قدر نفعه وقوته على العمل، أما إذا كان المال يوضع في غير وجهه، فتكره أرزاقهم، قال ابن القاسم‏:‏ وقاسم الغنائم كقسام القاضي، وإنما كره مالك لقسام القاضي، لأنها تؤخذ من مال اليتامى ومن أموال الناس، ولا بأس من بيت المال، وكذلك من يبعث في أمور الخصومات، لا يجعل له على الناس شيء، وقاله مالك، لأن الأخذ من أموال الناس سبب الحيف على بعضهم، فيكون من بيت المال، قال ابن القاسم‏:‏ فلو أجر قوم لأنفسهم قاسمًا لم أر به بأسًا، كما قال مالك في الوثيقة‏.‏ قال سحنون‏:‏ فإن لم يرزق القاسم من بيت المال أجر نفسه، وقال عبد الملك‏:‏ إن استوجب قاسم الغنيمة جاز، وإذا بعث القاسم ليقسم بين قوم فيهم صغير أو غائب‏:‏ قال أصبغ‏:‏ لا يشهد في ذلك حتى يرفعه للحاكم، فإن رآه صوابًا أمضاه لأن حق الصغير والغائب وكيل يقوم مقامه، قال ابن القاسم‏:‏ ولا يكره القاضي الناس على قسم قسامة خاصة، وكان عمر ‏(‏يقول‏)‏‏:‏ أغنوهم بالمعاملة عن الخيانة، وأجرى عمر بن عبد العزيز للقاضي دفع مائة دينار في السنة، وكان يوسع على عماله، ويقول‏:‏ ذلك لهم قليل إذا أقاموا كتاب الله وعدلوا، وعند ‏(‏ش‏)‏‏:‏ من تعين عليه القضاء وعنده كفايته وكفاية من تلزمه كفايته، لم يجز أن يأخذ عليه رزقًا، لأنه فرض تعين عليه، وإن لم تكن له كفاية جاز له الرزق

من بيت المال، لأن القضاء لا يترك له الكسب، فلابد أن يعرض عن الكسب، وإن لم يتعين عليه القضاء ووجد الإمام من يتطوع به من أهل الولاية، لو يجز أن يولي من يطلب عليه رزقًا، لأن بيت المال للمصالح ولا مصلحة في الدفع إليه مع وجود المتبرع، فإن عدم المتبرع وللمولى كفايته كره إن يأخذ عليه رزقًا، لأنه قربة وتحرم الإجارة على القضاء كأنه عمل غير معلوم، وعند ابن شعبان‏:‏ يجوز أخذ الرزق لمن تعين ولم يتعين مطلقًا مع إكراهه ذلك مطلقًا، واتفقت الأئمة والأمة فيما علمت على تحريم الإجارة، وأصل الأرزاق‏:‏ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرزق عتاب بن أسيد أربعين أوقية في السنة‏.‏ رواه الزهري ولم يبين‏:‏ ذهبًا ولا فضة، قوله تعالى‏:‏ ‏(‏والعَامِلِين عَلَيْهَا‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 60‏)‏ فيقاس عليها جميع المصالح‏.‏

قاعــدة‏:‏ لا يجتمع العوض والمعوض لشخص واحد، لئلا تبطل حكمة المعاوضة، وكذلك امتنع أخذ السابق في حلبة الخيل أو الرماة الرهن لئلا يكون المنتفع هو الآخذ، واشترط المحلل، وامتنع أخذ الأجرة في الصلاة لأن ثوابها للإمام، وكذلك للقاضي أجر حكمه له فهو يعمل لنفسه‏.‏

تمهيــد‏:‏ الأعمال ثلاثة أقسام‏.‏ أجمع على جواز الإجارة فيه‏:‏كالخياطة، وقسم أجمع فيه على المنع‏:‏ كالإيمان والصيام، وقسم مختلف فيه، كالحج والإمامة والأذان بوجوب شائبتين‏:‏ حصول النفع للنافع ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ بالثواب والمستأجر بالملازمة في المكان المخصص ونحو ذلك وقد يتوهم هذا في القضاء لكن عرض أمر عظيم وهو أن منصب القضاء منصب النبوة ‏(‏فلا يجوز‏)‏ أن يقابل بالعوض،

لأنه هوان، ولأن المستأجر مستحق للمنافع، فهو نوع من السلطنة تهين منصبه، وتخل بهيبته فتختل المصالح، وبه يفرق بينه وبين القسام وغيرهم، لأن مناصبهم قليلة العظم والخطر بالنسبة إلى القضاء، فتعد المفسدة فيهم بخلاف القاضي، وأما الأرزاق فهو يعطى للقاضي والفقراء والضعفاء بسبب واحد، وهو سد الخلة، لا للمعاوضة، فكما أنه في حق الفقير ليس معاوضة، فكذلك القاضي لا يلاحظ فيه إلا أنه محتاج لذلك فيعطاه، لا أنه لوحد خدمته شيء ويعاوض عليه كالفقير سواء، فلذلك جاز اتفاقًا‏.‏ ومنعت الإجارة اتفاقاُ، فاعلم هذه الفروق وتدبرها، فإنها مدارك جليلة‏.‏

الأدب الرابع عشـر‏:‏ التزام سد ذريعة الخيانة والمهانة، قال ابن يونس‏:‏ لا يقبل هدية، ولا ممن يهاديه قبل ذلك، ولا قريب ولا صديق، وإن كافأ بأضعافها، إلا من الوالد والولد ونحوهما من خاصة القرابة التي تجمع من الحرمة أكثر من حرمت الهدية، قال سحنون‏:‏ ومثل الخالة والعمة وبنت الأخ، ‏(‏لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا من بني أسد على الصدقة فلما قدم قال‏:‏ هذا لكم وهذا لي أهدي إلي، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال‏:‏ ‏(‏ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول‏:‏ هذا لكم وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منها شيئاَ إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته‏)‏ حديث صحيح، ولأنها ذريعة الرشي في الأحكام، فيندرج الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ لا يقبل ممن يخاصم ويقبلها من إخوانه، قال ابن حبيب‏:‏ لم يختلف العلماء في كراهتها إلى السلطان والقضاة والعمال وجباة الأموال، وقبوله صلى الله علية وسلم الهدية من خواصه، قال ابن حبيب‏:‏ وللإمام أخذ ما أفاد العمال، كما فعله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا

‏.‏‏.‏ ولًي أحدا أحصى ماله لينظر ما يزيد فيأخذه منه، وكذلك شاطر العمال لمًا لم يستطع تمييز الزائد، وشاطر أبا هريرة وأبا موسى الأشعري، لما احتضر معاوية رضي الله عنه أمر أن يدخل شطر ماله في بيت المال استنانًا بفعل عمر بعماله‏.‏

تمهيـد‏:‏ الزائد قد يكون من التجارة أو الزراعة لا من الهدية ولا تظن الهدايا بأبي هريرة وغيره من الصحابة إلا مما لا يقتضي أخذا، ومع ذلك فالتشطير حسن، لأن التجارة لابد أن ينميها جاه العمل فيصير جاه المسلمين، كالعامل والقاضي أو غيره رب المال فأعطي العامل نصف المال عدلا بين الفريقين، وكذلك لما انتفع عبدُ الله وعبيد الله ‏(‏ابنا عمر بن الخطاب‏)‏ بالمال الذي أخذاه من الكوفة سلفًا في القصة المشهورة، قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -‏:‏ اجعله قراضًا يا أمير المؤمنين، فجعله قراضًا، ولو لا هذه القاعدة كيف يصير القرض قراضًا فتأمل ذلك، قال ابن يونس‏:‏ ولا بأس للقاضي بحضور الجنائز، وعيادة المرضى، ويسلم على أهل المجلس ويسلم على من يسلم عليه، لا ينبغي له إلا ذلك، لأنها قربات من أموال الناس، فالقربات، وقال عبد الملك ومطرف‏:‏ لا ينبغي له أن يجيب الدعوة لأنها مظنة أكل الطعام إلا في الوليمة للحديث فيها، ثم إن شاء أكل أو شرب، وقال أشهب‏:‏ يجيب الدعوة العامة وليمة أو صنيعًا عامًا لفرح، ولا يجب لغير الفرح، لأن العموم لعله من أجل القاضي لا لسرو، قال سحنون‏:‏ والتنزه عن الدعوة العامة أحسن، وقد كره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم‏.‏

سؤال‏:‏ قال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏لوْ دُعيتُ إلى كُراع لأَجْبتُ‏)‏ واختلف هل المراد كراع

الشاة أو اسم مكان، وعلى التقدير تكون إجابة الداعي حسنة مطلقًا للقاضي وأهل الفضل؛ اقتداء به - صلى الله عليه وسلم -‏.‏ بل ينبغي النهي عن غير ذلك‏.‏

جوابه‏:‏ إن عظم منصبه - صلى الله عليه وسلم - أوجب الفرق، فكان الناس يجيبون، فإن من أجابه - صلى الله عليه وسلم - فقد حصل له خير الدنيا والآخرة، فالمنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الداعي جزمًا، والأمر فينا بالعكس، إنما ندعى لتكون المنة علينا، وذلك هوان بنا وعز به - صلى الله عليه وسلم - فحصل الفرق، وفي النوادر‏:‏ قال عبد الملك ومطرف‏:‏ لا يشغل القاضي بالأحاديث في مجلسه إلا أن يريد اجمام نفسه‏.‏ قالا‏:‏ وإذا جلس أحد عنده وقال‏:‏ جلست لأفتدي بك، وأتعلم من اقضيتك‏:‏ فليقمه، والجلوس عند القضاة من حيل المشاكلين للناس، إلا يكون معروفاَ مأمونًا فيدعه، قال أصبغ‏:‏ لا يقعد عنده إلا الثقة البارز الذي فيه نفع، ولا يشغل في مجلس قضائه بالبيع والابتياع لنفسه أو لغيره على وجه العناية به إلا ما خف، قال سحنون‏:‏ وتركه أفضل قال أشهب‏:‏ فما باع جاز بيعه لا يرد منه شيء، قال سحنون‏:‏ ولابأس بذلك في غير مجلس القضاء لنفسه ولغيره‏.‏ وكتب عمر بن عبد العزيز‏:‏ تجارة الولاة لهم مفسدة، وللرعية مهلكة، قال أشهب‏:‏ أما بيع التركات في مجلس قضائه، أو مال غائب أو صغير، فذلك جائز، قال عبد الملك‏:‏ لا ينبغي إكثار الدخول عليه، ولا الركوب معه، إلا لأهل الأمانة والنصيحة والفضل، قال أشهب‏:‏ لا يقبل الهدية من خصم وإن كان خاصًا أو قياسا له، وإن كافأه، ولا من غير خصم، إلا أن يكافئه بمثلها، وإن كان يهاديه قبل ذلك، قال ابن عبد الحكم‏:‏ له التسلف من إخوانه الذين يعرف له السلف منهم، ويستعين بإخوانه في حوائجه، قال عبد الملك‏:‏ لا ينبغي له التضاحك مع الناس، وتكون فيه عبوسة بغير غضب، ويلزم التواضع من غير وهن لا ترك حق، وإن أمكنه الغناء عن الأعوان كما كان الخلفاء فهو أفضل، فإن احتاج فليخفف ما

استطاع، ويمنع من رفع الصوت عنده لئلا يدهش، ويتنزه عن العواري والمقارضة، قال ابن عبد الحكم‏:‏ لا بأس أن يطاع ضيعته اليومين والثلاثة‏.‏

وفي الجواهر‏:‏ لا يشتري بنفسه ولا بوكيل معروف لئلا يسامح، ولا يوكل إلا من يأمنه على دينه لئلا يسترخص له بسبب الحكم، ولا يدري الناس منزلة لأحد عنده لئلا يؤتى من قبله، ولا يدعو أحدا في عدالة ولا شهادة، ويكفي القاضي من المعرفة منح الرجل صحبه من غير حاجة، لأنه يخادع الناس بالمنزلة عند القاضي كثرة الناس في الركوب معه، تعظم عليه نفسه، وتعظم عليه خلقه، ووافقنا الأئمة على تحريم الرشوة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏لعن الله الراشي والمرتشي على الحكم‏)‏ وقال أبو حامد الإسفرايني والبكري من الشافعية‏:‏ إذا كان لا يأخذ رزقًا من بيت المال، وقال‏:‏ لا أقضي بينكما إلا بعوض وأجراه مجرى الهدية، وحقيقة الرشوة‏:‏ الأخذ للحكم بغير الحق أو لإيقاف الحكم، فهذا هو الحرام عندهم وعند ‏(‏ش‏)‏‏:‏

تحرم الهدية من غير من عادته أن يهدي إليه قبل الولاية، وممن عادته، إن كانت له حكومة أو يستشعرها له، أو أهدى له أعلى مما عادته أن يهديه والإجارة مع الكراهة، وكذلك إذا أهدى إليه في غير عمله، واختلف الشافعية إذا أخذ المحرمة هل يردها لربها أو لبيت المال، لأن المهدي أهدى إليه لمكان ولايته، وهو منتصب لمصلحة المسلمين فكأنه، أهداها للمسلمين فتصرف في مصالحهم، وجوزوا حضوره الولائم مطلقًا من غير كراهة، وكرهوا تولي البيع والشراء بنفسه، وأن يكون وكيله معروفًا، ولهم في الفتيا في أحكام الخصومات قولان‏.‏ ووافق ابن حنبل ‏(‏ش‏)‏ في لهدية وأقسامها والولائم والبيع، وعند ‏(‏ح‏)‏‏:‏ متى قبل الرشوة انعزل، ولا ينفذ قضاؤه بعد ذلك، حتى يتوب، فإذا تاب فلا يحتاج استئناف تولية، لأن الفسق يبطل حكمه كالشهادة بل أولى؛

لأن حكم القاضي ينفذ على الغير، والشاهد لا ينفذ قوله على الغير، ويعود لغير ولاية لزوال المعارض فيعمل السبب السابق، وفصل في الهدية مثل ‏(‏ش‏)‏‏.‏

الأدب الخامس عشـر‏:‏ في أمور متقدمة يحتاجها‏.‏ في الجواهر‏:‏ يجعل من يثق به يخبره بما يقول الناس فيه من أخلاقه وينكرون عليه فينظر فيه ويستدركه بما يليق، وفي النوادر‏:‏ يتعين على جليس القاضي إذا أنكر أمرًا أن لا يؤخره، بل في الحال يخبره به ليتوب، وإذا احتاج إلى كشف وجه المرأة كشف بين يدي العدول من أصحابه، وأمر بنحي الخصوم ومن على رأسه إن كان امنه، ويجعل للنصارى يومًا أو وقتًا يجلس لهم فيه في غير المسجد، قال سحنون‏:‏ والغرباء وأهل المصر سواء، إلا أن يرى غير ذلك في الغرباء مما لا يضر بأهل المصر، وله أن يجعل للغرباء وقتًا يخصهم، فإن كثروا فلا يبدأ بهم كل يوم بل يجعل لهؤلاء دعوة ولهؤلاء دعوة، ثم يبدأ بطائفة أول يوم، ثم يميل لأهل المصر حتى يقوم، ثم يبدأ في اليوم الثاني بباقيهم، ثم يميل إلى أهل المصر، يفعل ذلك حتى تنقضي تلك الدعوة، فإن خاصم فيما سوى ذلك من لم يكن كتب اسمه في الدعوة خير في إثباته في أول من يدعو أو وسطه أو آخره، أو تركه حتى ينقضي جميع من كتب في الدعوة باجتهاده، وليس من يخاف فوات أمره كغيره، قال مطرف وعبد الملك‏:‏ شأن القضاة تقديم الغرباء، قالا‏:‏ ليس من فعل القضاة أن يجعل لنفسه يوماَ في الجمعة لا يقضي فيه، بل ينظر لنفسه في كل الأيام في دنياه وحوائجه، قال سحنون‏:‏ لا ينبغي أن يكتب خصم كل من جاءه إلا بلطخ من شهادة أو سماع، فلعله يشخص الرجل البعيد ولا شيء له عنده، أو يدعي بشيء وليس فيعطيه إياه ولا يرتفع، قال أصبغ‏:‏ لا يكتب في دفع خصم إلا العدل،

فيقول له‏:‏ مرهما بالتناصف، فإن امتنعا فارفعهما إن كان للمدعي وجه لمطالبته، وخصمه لدد، وإلا ترفعه، وهذا في المكان القريب، ويكتب في البعيد إلى من يرضاه من أهل العلم، ويسمع البينة، واكتب إلي بما صح عندك، فإذا كتب بما صح عنده فله أن يأمره بإنفاذ الحكم بينهما أو بحملهما إليه فينفذه بينهما، ولا يرفع البينة، فإن عدم ثم من يكاتب يعرفه القاضي، وذكر للقاضي أن ثم من يصلح، فليأته بمن يعرفه، فإن ثبت عنده الأهلية كتب وإلا كتب إلى عامل البلد إن وثق به فإن تعذر ذلك كتب للمطلوب‏:‏ إن فلانا ًذكر فلاناَ فتناصفا، وإلا فاقدم معه، فإن قدم وإلا نفذ من يقدمه إن قرب المكان، قال ابن عبد الحكم‏:‏ إن كان في المصر أو قريبا منه، أعطي الطالب طابعًا أو رسولا أو بعيدًا، أمر بحمله إلا أن يشهد عليه شاهدا، أو شاهدان، فيكتب حينئذ إلى أمنائه‏:‏ إما أن ينصفه وألا يرتفع معه، وله أن يأتي في البر والبحر ما لم يرد إلا التطويل، ومتى كان في الحكومة إشكال فلا بأس أن يأمرهما بالصلح، وإذا أقر المطلوب بشيء أمر الطالب أن يشهد عليه لئلا يُنكر‏.‏

البــاب الخــامـس في مـستند قضائـه

قاعدة‏:‏ في الفرق بين الأدلة والعلل والأسباب والحجج في موارد الشرع‏.‏ أما الأدلة‏:‏ فتقدم في مقدمة الكتاب أنها قسمان‏:‏ أدله مشروعية الأحكام، وهي سبعةَ عشَر بالإستقراء‏:‏ الكتاب، والسنه، وما ذكر معهما في المقدمة، وأدلة وُقوعِها، وهي غير متناهية، لأنها وقوع أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها، كأدلة الزوال من الرخامات، وموازين الشمس وغيرها، وبسطُه في المقدمة، وأدلة المشروعية يَتقدم فيها المجتهد، ثم الأوَصاف المنصوبة التي دلت عليها الأدلة التي هي أدلة المشروعية، منها معقول الحكمة، كنصب الإسكار علة للتحريم، والإقتيات للربا، فهذه علل، وتارة لا تعقل حكمها، كالزوال، وأوقات الصلوات، والصيام، فهذه أسباب، ثم إٍذا دلت الأدلة، وتقرر السبب، والحكم وعلته، وتعلق النزاع بين اثنين فيه، أو هو حق الله على خلقه، فالمثِبت لذلك من بينة، أو أيمان، أو إقرار حُجَج، فالحجج متأخرة الرتبة عن الجميع، والأدلة متقدمة على الجميع، والأسباب والعلل متوسطة متأخرة عن الأدلة، ومقدمة على الحجج، فيظهر الفرق بين الجميع‏.‏ إذا تقررت هذه القاعدة فجميع ما يقضي به الحاكم المقلد حجج إذا قلنا‏:‏ لا يقضي بعلمه، وإن قُلنا‏:‏ يقضي بعلمه فليس العلم حجته، بل بدل الحجة، لأن مقصود الحجة إثارة الظن عند الحاكم، فإذا حصل ذلك أو أقوى منه، قام مقام الحجة على ما سنُبين، إن معنى قول العلماء‏:‏

القاضي يقضي بعلمه، ليس المراد‏:‏ حقيقة العلم، بل غالبه ظن، وأما الحاكم المجتهد فيحكم بالحجج والأدلة، والمقلد لا يجوز له اتباعُ الأدلة، وأصل القضاء بالأدلة‏:‏ قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ لمعاذ لما بعثه لليمن‏:‏ ‏(‏كيف تقضي‏؟‏ قال له‏:‏ أقضي بما في كتاب الله، قال‏:‏ فإن لم تجد في كتاب الله، قال‏:‏ ففي سنة رسول الله، قال‏:‏ فإن لم تجد، قال أجتهد رأيي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِه لما يُرضي رسولَه‏)‏ وأجمع المسلمون على ذلك، وإن اختلفوا في الاجتهاد ما هو‏.‏

وفي المقدمـات‏:‏ يحكم بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقدم ما صحبه العمل، لأن أصل مالك‏:‏ تقدم العمل على خبر الواحد، وكذلك القياس مقدم على الآحاد على ما ذهب إليه الأبهري، فإن لم يجد السنة، فبأقوال الصحابة - رضي الله عنهم-، فإن اختلفوا فما صحبه العمل من أقواهم، وإلا تخيروا من أقواهم ولم يخالفهم أجمعين، وقيل‏:‏ له أن يجتهد وإن خالفهم كلهم، حجة الأول‏:‏ قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏أصحابي كالنجوم، بأَيهِم اقتديتُم اهتد يتم‏)‏ فإن فقد ذلك فاْبن على الأصول بعد مَشُورة العلماء، فإن اجتمعوا على شيء أخذت به، إلا فبأحسن أقوالهم عنده، وإن رأى مخالفتهم فعل إن كان نظيرا لهم وإلا فلا، قاله ابن حبيب، قال‏:‏ والصحيح‏:‏ له مخالفتهم مطلقاَ ما لم يكن إجماعا، وهو على الخلاف هل للمجتهد أن يقلد أقوالاَ مذكورة في الأصول، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد ففرضه‏:‏ المشورة والتقليد، فإن اختلف العلماء قضى بقول أعلمهم‏.‏ وقيل‏:‏ بقول أكثرهم على ما وقع في المدونة في الحكاية عن الفقهاء السبعة، وقيل‏:‏ يتخير ويتحرى الصواب دون الهوى، وله الاكتفاء بمشورة واحد، وأعلمهم أفضل، ومن دونه يجوز إن كان من أهل الاجتهاد، وفي النوادر‏:‏ إذا وجد المجتهد حديثاََ شاذاَ رده إلى الأصول، وإذا فقد النصوص مثل بالنظائر وشاور، ثم إذا حكم فإن أشكل عليه ترك، ولا يحكم وفي قلبه شك، ولابد من بذل الجهد، ولا يحكم قبل ذلك بما حضره حتى يستفرغ جهده‏.‏ والعدل واجب إجماعا واتباع الهوى محرم إجماعا‏.‏

سؤال‏:‏ العدل الواجب هو التسوية، والحاكم لا يسوي لتقديمه المدعى عليه على خصمه، ويحلف أحدهما دون الآخر، ويلزم أحدهما البينة دون الآخر، فلا تسوية‏؟‏

جوابه من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه سوى بينهما في الإقبال عليهما، والنظر والمجلس واٍلاستماع، وغير ذلك فقد حصلت التسوية‏.‏

وثـانيهما‏:‏ سوى بينهما في العمل بالمظنون، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه إلا ما استثناه الشرع، كالقسامة، واللعان يسوى فيه بين الأزواج، والنساء في درء الحد باللعان، وبين الخصوم في تحليف كل مدعى عليه، وكل مدع بعد النكول، وإذا تناكلا لم يحلف واحد منهما، وسوى بينهما، والتسوية في صرف مال بيت المال في تقديم الضرورات على الحاجة في حق جميع الناس، ويسوي في سد الخلة لا مقدار المدفوع، ويسوي الإمام بين الناس في نصب القضاة والولاة وكفاة الثغور من الكفار والكراع والسلاح‏.‏

تـنبيـه‏:‏ المقلد له حالتان‏:‏ تارة يحيط بقواعد مذهبه، فيجوز له تخريج غير المنصوص على المنصوص بشرط تعذر الفارق، ومع إمكانه يمتنع، لأن نسبته إلى إمامه وقواعده كنسبة المجتهد المطلق إلى صاحب الشريعة وشريعته، فكما للمجتهد المطلق التخريج عند عدم الفارق، ويمتنع عند الفارق، فكذلك هذا

المقلد، وتارة لا يحيط بقواعد مذهبه فلا يجوز له التخريج وإن تعذر الفارق، لاحتمال أنه لو اطلع على قواعد مذهبه لأوجب له الاطلاع الفرق، ونسبته إلى مذهبه كنسبة من دون المجتهد المطلق إلى جملة الشريعة، فكما يحرم على المقلد التخريج فيما ليس مذهب العلماء، يحرم عليه اتباع الأدلة، ويجب عليه الأفضل إلا بقول عالم، وإن يظهر لم له دليله لقصوره عن رتبة الاجتهاد، فكذلك هذا، وهو المراد بما تقدم في شروط القضاء‏:‏ أنه لا يخرج ولا يحكم إلا بمنصوص فافهم هذا التحرير فإنه يطرد في الفتيا‏.‏

وفي الباب فروع أربعة‏:‏

الفرع الأول‏:‏ في الجواهر‏:‏ لا يقضي بعلمه تقدم عقد التولية أو بعدها في غير مجلس قضائه أو فيه، قبل الشروع في المحاكمة أو بعدها، وقال عبد الملك وسحنون‏:‏ يحكم بما علم بعد الشروع وحيث معنا فحكمه لا ينقض عند بعض أصحابنا لوقوع الخلاف‏.‏ كما حكم في مسألة مختلف فيها بأحد القولين، لأن الحكم بالسند حكم بصحته، ونقضه أبو الحسن لبطلان المدرك عنده كما ينقض في مسائل الخلاف ما ضعف دليله،

فإن أنكر الخصمُ بعد الحكم عليه أن يكون أقر‏:‏ ففي قبول الحكم عليه قولان نظرا للتأكيد بالحكم وضعف المدرك، قال التونسي‏:‏ لم يذكر محمد خلافاَ في المـوازية فيما رأى القاضي أو سمعه في غير مجلس قضائه‏:‏ أنه لا يحكم به، وأنه ينقض إن حكم به، ينقضه هو وغيره، لضعف العلم بتقدمه كتقدم اليمين والبينة على الدعوى، وإنما الخلاف فيما يقربه الخصمان في مجلسه، فإن حكم به نقضه هو دون غيره، ونفذه عبد الملك كعلمه في التجريح والتعديل، فإن أقر الخصم بعد جلوسه للخصومة ثم أنكر‏:‏ قال مالك وابن القاسم‏:‏ لا يحكم بعلمه، وجَوزه عبد الملك وسحنون ورأيا أنهما لما جلبا للحكومة فقد رضيا بالحكم بما يقولانه، وكذلك إن لم ينكر حتى حكم ثم أنكر لم ينظر إلى إنكاره على المشهور، قاله اللخمي، وفي الجلاب‏:‏ إذا ذكر الحاكم أنه حكم في أمر من الأمور وأنكر المحكوم عليه لم يقبل قول الحاكم إلا ببينة، قال أبو الحسن‏:‏ وهو أشبه في قضاة اليوم لضعف عدالتهم، وقال أيضاَ‏:‏ لا أرى أن يباح هذا اليوم لأحد من القضاة، ولا خلاف في اعتماده على علمه في الجرح والتعديل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ إذا وجد في ديوانه حكماَ بخطه، ولم يذكر أنه حكم به، لم يجز له الحكم به إلا أن يشهد عنده شاهدان‏.‏ وإذا نسى القاضي حكما حكَم به فشهد عنده شاهدان أنه قضى به، نقض الحكم بشهادتهما وإن لم يذكرا، كما ذكر القاضي أبو محمد، وحكى أبو الفرج رواية‏:‏ أنه لا يلتفت إلى البينة ولا يحكم بها لأنها لا تثبت على نفسه، ولو شهد الشاهدان عند غيره بعده، لأنه مثبت على الغير وهى قاعدة الإثباتات، وعن مالك‏:‏ إذا أنكر قضاءه فشهد به بعده من شهد به عنده، عزل الأول أم لا، وسوى شهودها بين حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى، ووافقنا ابن حنبل، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا يحكم في الحدود بما يشاهده من أسبابها إلا القذف، ولا في حقوق الآدميين بما علمه قبل الولاية دون ما بعد الولاية، ومشهور ‏(‏ش‏)‏‏:‏ الحكم في الجميع، والاتفاق على الجرح والتعديل في جواز الحكم فيما يعلمه‏.‏ لنا‏:‏ قوله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏إنما أنَا بَشَر، وإنكُم تًختصِمُون إليً، ولعلً بعضَكم أنً يكونَ ألَحن بحجُتِه مِن بعض فَأقضِي له عَلَى نَحو مَا اسمعُ منه‏)‏فدل على القضاء بالسماع دون العلم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏شَاهِدَاك أو يَمينهُ لَيس لَك مِنه إلا ذلك‏)‏ فحصرَ الحجة في الأمرين، فلا يعتبر العلم، وفي أبي داود‏:‏ ‏(‏أن رسولَ الله بَعثَ أبا جَهم على الصًدَقة، فلاحًه رجل في فريضة فوقع بينهما ِشجاج فأتوا النبيً - - صلى الله عليه وسلم - - فأعطاهم الأرشَ ثم قال‏:‏ فأخطب الناس أعلمهم برضاكم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم فخطب فأعلم فقالوا‏:‏ لا، ما رضينا، فأرادهم المهاجرون والأنصار، فقال النبي - - صلى الله عليه وسلم - -‏:‏ لا ونزل، فجلسوا إليه فأرضاهم، فقال‏:‏ أخطب وأعلم الناس‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، فخطب فأعلم الناس، فقالوا‏:‏ رضينا‏)‏ وهذا نص في عدم الحكم بالعلم، وفي الصحيحين في قصة هلال وشريك‏:‏ ‏(‏إن جاءت به لكذا فهو لهلال يعني الزوج وإن جاءت به لكذا فهو لشريك بن سحماء يعني المقذوف فجاءت به على النعت المكروه، فقال - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتهما‏)‏ فدل ذلك على أنه لا يقضي في الحدود بعلمه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقًا، وقد وقع ما قال، فيكون العلم حاصلا له ومع ذلك ما رجم، وعلل بعدم البينة‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏والذِينَ يَرْمُونَ المُحصنَاَتِ ثُمَ لَمْ يَأتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداء فاجْلِدُوهُم‏)‏ فاقتضى جَلدهم عند البينة وإن علم صدقَهم، فإن الحاكم غيرُ معصوم فيتهم بالقضاء على عدوه، ولوليَه، ولا يعلم بذلك، فحسمت المادة صوناَ لمنصب القضاء عن التهم، قال صاحب الاستذكار‏:‏ واتفقوا أن القاضي لو قتل أخاه، فعلمه بأنه قاتل أنه كالقاتل عمداَ، لا يرث منه شيئا للتهمة في الميراث، واحتج لعبد الملك بقوله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏على نحو ما اسمع منه‏)‏ وقال مالك‏:‏ نحو، معناها اهتدى أو لا لمواضع الحجج، ولذلك قال‏:‏ ‏(‏ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته‏)‏، احتجوا بحديث مسلم في أبي سفيان، قضى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنفقة بعلمه فقال لهند‏:‏ خذي لك ولولدك ما يكفيكِ بالمعروف ولم يكلفها بينه، قال صاحب الاستذكار‏:‏ ‏(‏استعدى رجل من بنى مخزوم عمر رضي الله عنه على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدا في موضع، فقال عمر‏:‏ إني لأعلم الناس بذلك، فقال عمر لأبي سفيان‏:‏ انهض بنا إلى الموضع، فنظر عمر فقال‏:‏ يا أبا سفيان، خذ هذا الحجر من هاهنا فضعه هاهنا، فقال‏:‏ والله لا أفعل، فقال‏:‏ والله لتفعلن، فقال‏:‏ لا أفعل، فَعَلاه عُمرُ بالدرة وقال‏:‏ خذه لا أم لك وضعْه هاهنا، فإنك ما علمت قديم الظلم، فأخذه فوضعه حيث قال، فاستقبل عُمر القِبلةَ فقال‏:‏ اللهم لك الحمد إن لم تمتني حتى غلبتُ أبا سفيان على رأيه وأدللته لي بلا إسلام، فاستقبل القبلةََ أبُو سفيان وقال‏:‏ اللهم لك الحمد أن لم تُمِتني حتى جعلت في قلبي ما ذللته لعمر‏)‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏كُونُوا قَوَامِينَ بِالْقِسْطِ‏)‏ ولأنه إذا جاز أن يحكم بنات على الظن الناشئ عنٍ

قول البينة بالعلم أو الرأي والعجب جعل الظن خيرًا من العلم، ولأن التهمة قد تدخل عليه من قبل البينة فيقبل من لا يقبل، ولأن العمل يجب بما نقلته الرواة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبما سمعه المكلف منه بطريق الأولى، فكذلك الحاكم يسوي في حقه إخبار البينة وسماعه هو من غير بينة أو رتبه، قياسًا على الرواية بطريق الأولي لأن الرواية تثبت شرعًا عامًا والقضاء في فرد لا يعدى لغيره بحضرة أقل، ولأنه لو لم يحكم بعلمه لفسق في صور‏:‏ منها‏:‏ أن يعلم ولادة امرأة على فراش رجل، فشهد بأنها مملوكة، مكنه من وطء ابنته، وهو فسق، وإلا حكم بعلمه، ومنها‏:‏ أن يعلم قتل زيد لعمرو ويشهد بأن القاتل غيره فإن قتل قتل البريء، وإلا حكم بعلمه، ومنها‏:‏ لو سمعه يطلق ثلاثا فأنكر فشهدت البينة بواحدة، إن قبل البينة مكن من الحرام، وإلا حكم بعلمه، ‏(‏ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى فرسا فجحده البائع، فقال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ من يشهد لي‏؟‏ فقال خزيمة‏:‏ يا رسول الله، تخبرنا عن أمر السماء فنصدقك، أفلا نصدقك في هذا‏؟‏ فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏ذا الشهادتين‏)‏ فهذا وإن استدل به المالكية على عدم القضاء بالعلم، فهو يدل لنا من جهة حكمه - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، فيجوز أن يحكم لغيره بعلمه، لأنه أبعد في التهمة من القضاء لنفسه بالإجماع، وبالقياس على التجريح والتعديل‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ قصة هند فتيا لا حكم، لأنه الغالب من تصرفاته - صلى الله عليه وسلم -، لأنه رسول مبلغ، والتبليغ فتيا، والتصرف بغيره قليل بالنسبة إلى الفتيا، ولأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد، ولا خلاف أنه لا يقضي على حاضر من غير أن يعرف‏.‏ 10/ 402 402

وعن الثاني‏:‏ أنه من باب إزالة المنكر الذي يحسن من آحاد الناس القيام به وإزالته لا من باب القضاء فلم قلتم‏:‏ إنه من القضاء‏؟‏ ويؤكده أنها واقعة عين مرددة بين الأمرين، فتكون مجملة فلا يستدل بها‏.‏

وعن الثالث‏:‏ القول بالموجب، فلم قلتم‏:‏ إن الحكم بالعلم من القسط، بل هو عندنا محرم‏.‏

وعن الرابع‏:‏ أن العلم أفضل من الظن لأن استلزامه تطريق للتهم لمنصب القضاء والطعن على متوليه فتنخرق ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ وتختل المعالم العامة، أوجب رجحان الظن عليه، والراجح قد يعارضه ما يصيره مرجوحًا‏.‏

وعن الخامس‏:‏ أن الرواية والسماع والرؤية استوى الجميع لعدم المعارض في العلم كما تقدم بخلاف الحكم‏.‏

وعن السادس‏:‏ أن تلك الصور لم يحكم فيها بعلمه، بل ترك الحكم بالشهادة وترك الحكم ليس بحكم، وتركه عند العجز عنه ليس فسقًا‏.‏

وعن السابع‏:‏ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما حكم لنفسه، وليس في الحديث أنه أخذ الفرس، فهذا من الأعرابي، فقد اختلف هل حكم أم لا‏؟‏ وهل جعل شهادة خزيمة شهادتين حقيقة أو مبالغة، فما تعين ما ذكرتموه، وقد ذكر الخطابي أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سمى خزيمة ذا الشهادتين مبالغة لا حقيقة‏.‏

وعن الثامن‏:‏ إنما حكم فيه بعلمه لئلا يلزم التسلسل لأنه يحتاج إلى بينة فتشهد بالجرح أو التعديل، وتحتاج البينة بينة إلا أن يقبل بعلمه، بخلاف صورة

النزاع، وقال القاضي في المعونة‏:‏ هذا ليس حكمًا، وإلا يتمكن غيره من قبول شهادة من رفضته أو تجريح من عدلته، لأن حكم الحاكم لا ينتقض ذلك، وإذا لم يكن حكمًا فلا ينقض‏.‏

فائدة‏:‏ قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏فأقضي له على نحو ما أسمع منه‏)‏ قال صاحب الاستذكار‏:‏ معناه‏:‏ فأقضي عليه فإن المسموع من الخصم لا يقضى له به‏.‏

تنبيــه‏:‏ قال صاحب الاستذكار‏:‏ إذا جحد المقر إقراره الذي أقر به في مجلس الحكم، ولم تحضره بينة تشهد عليه بالإقرار‏:‏ قال جمهور الفقهاء‏:‏ يجب بموجب إقراره من الشافعية وغيرهم، ولا يستحب مالك أن يحضره شاهدان وأجاز في ذلك العدل وغيره ولم يبح فيهم مدفعها، وهو دليل على أن ذلك عنده استحباب، وظاهر كلامه يقضي أن مذهب مالك أن له أن يحكم وإن لم يشهد على الإقرار فيه، وإنما الشهادة استحباب‏.‏

فرع مرتب

قال القاضي في المعونة‏:‏ وحيث معنا الحكم بما علمه فهو فيه شاهد، فيرفعه إلى الإمام أو إلى غيره من الحاكم، ويدعي صاحب الحق شهادة الحاكم مع غيره، قال اللخمي‏:‏ حيث منع فشهادته قسمان‏:‏ إن كان علمه قبل الحكومة شهد عند غيره، وإن كان من الإقرار عند المحاكمة منع محمد قبول شهادته للتهمة على التنفيذ، وقال أيضًا‏:‏ لا يقبل إذا لم يحكم، قال‏:‏ وأرى القبول إذا لم يحكم كالعبد لم ترد شهادته حتى عتق فإنها تقبل، وإن حكم بعلمه ثم رد لم يقبل وحيث يقبل يوفيها لمن فوقه، واختلف فيمن تحته، قال‏:‏ وأرى أن يقبل إذا كان مبرزًا في العدالة

وإلا فلا، لأن تجريحه يتعذر، ولا يقوم الناس عليه‏.‏ وفي الكتاب‏:‏ إذا أقر الخصم عنده وليس عنده أحد، ثم عاد فجحد، لا يقضي عليه إلا ببينة سواه، وإلا شهد بذلك عند من فوقه، وما علمه من الحدود‏:‏ قذف أو غيره أو غضب فليرفعه إلى من فوقه، وهو شاهد فيه، وإن رأى الحد السلطان الأعلى الذي ليس فوقه سلطان رفعه إلى القاضي، أو رآه مثل أمير مصر، رفعه للقاضي وكان شاهدًا، ولا يرفعه إلى أمير المؤمنين‏.‏ وفي التنبيهات‏:‏ قيل إن مذهبه في الكتاب‏:‏ لا يرفع أحد إلا لمن دونه وتحت يده إلا السلطان الأعظم للضرورة إلى ذلك، وقال سحنون‏:‏ لا يقام هذا الحد ويهدر، واعتمد هذا القائل على ظاهر الكتاب، وحمل قوله في والى مصر على أن القاضي من تقديم الخليفة وقيل‏:‏ يجوز إلى ما دونه كما يجوز للخليفة، وكانت العادة تقديم القضاة من قبل الولاة، وعليه تكلم، وهي سيرة بني أمية، حتى ولى بنو العباس القضاة من قبلهم دون الأمراء، قال ابن يونس‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا كان معه في الحد غيره ولا يتم إلا به لم يقمه، وشهد فيه عند غيره وإن، شهد السلطان وآخر معه أن هذا سرق متاع السلطان رفعه لمن فوقه، وإن شهد اثنان غيره أنه سرق متاع السلطان قطعه، لأن القطع حق لله تعالى، ولا يغرمه حتى يرفعه إلى غيره لأن الغرم حق له وهو لا يحكم لنفسه‏.‏

فـــرع‏:‏ قال ابن يونس‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا علم خلاف ما شهدت به البينة لم يحكم بشهادتها، ولا يجوز له ردها لعدالتها، ويرفع ذلك إلى الأمير الذي هو فوقه فيشهد بما علم، والبينة بما علمت، ويرى ذلك الآخر رأيه، فإن كانت البينة غير عادلة شهدت بما يعلمه لا يقضي بشهادتها لعدم العدالة، وفي الموازية‏:‏ إذا شهدت العدالة بما يعلم خلافه نفذ شهادتهم بعد الاستنظار، والأحسن لو خلا

بهم فأعلمهم بعلمه، فلعلهم ينكشف لهم أو له ما وراء ذلك، فإن لم يكن ذلك فليحكم بشهادتهم، ويعلم المشهود أن له عنده شهادة، فيرفع ذلك المحكوم عليه إلى من فوقه، فإن لم يكن أحد إلا تحته لم يرفع إليه إلا عند أشهب، لأن أصل‏:‏ أن لا يحكم بشهادة الإنسان من فوقه ورفعه عند عبد الملك، لأن عُمر اختصم مع أبي إلى عثمان - رضي الله عنه -، فيحصل في حكمه بخلاف علمه قولان‏.‏

تنبيه‏:‏ قول العلماء‏:‏ لا يحكم الحاكم بعلمه أو يحكم‏.‏ ليس مرادهم حقيقة العلم، بل الظن الغالب، فإن الحاكم إذ رأى زيدا قتل عَمرًا فحكم بالقصاص بما رآه، ليس هو حوالة الحكم عالمًا بصحة ما حكم به، لجواز صدور العفو قبل الحكم، كذلك أسباب الأملاك من البيع والإرث وغيره، يحتمل طروء الناقل بعدها، وإنما يحكم بالعلم في الصور التي لا تقبل طروء المعارض، كالنسب والولاء ونحوه، يفهم هذا من قولهم‏:‏ إن الشهادة من شرطها العلم، فإن الشاهد ليس جازمًا حالة الأداء ببقاء ما شهد به من الملك والمعاملة، وإنما مراد العلماء أصل المأخذ، فإن كان ظنا سمي ظنا أو علما سمي علما، ثم يستصحب فيصير ظنا‏.‏

تنبيه‏:‏ قال بعض العلماء‏:‏ استثني من الحكم بالعلم وحيث منع‏:‏ التواتر لوجهين‏:‏ لأنه أبلغ من البينة، ولا تبقى التهمة بكثرة النقل، وحيث قلنا‏:‏ يحكم كما قال ‏(‏ش‏)‏ يستثنى الحكم بالتفليس لبعض الورثة ونحوه، ونص عليه الشافعية ومنعوه‏.‏ وقيل‏:‏ لأن أصل هذا الملاك ظن فتقوى التهمة فيمتنع بخلاف ما يمنع أصله‏.‏

الفرع الثاني‏:‏ قال اللخمي‏:‏ إذا قال‏:‏ ما خاصمت عندك، وقال للقاضي‏:‏ خاصمته عندي وأعذرت إليك ولم تأت بحجتك فحكمت عليك‏.‏ فقولان يصدق القاضي لأصبغ، وفي الجلاب‏:‏ لا يصدق إلا ببينة، قال‏:‏ وهو الأشبه في قضاة الوقت، وإن كان مضمون الحكم وقفًا على رجل، وأنكر المحكوم عليه، لم يصدق القاضي إلا ببينة على اعتراف المحكوم عليه، قاله أصبغ، بخلاف القصة بين متنازعين، قال في موضع آخر‏:‏ إذا حكم فقال‏:‏ ما كنت أقررت عندك، لم ينظر إلى إنكاره، قال‏:‏ وهذا المشهور، خلاف قول ابن الجلاب‏:‏ لا يقبل إلا ببينة، قال‏:‏ وقول ابن الجلاب هو الأشبه، فقضاة اليوم وإن أنكر البينة، أن تكون شهدت بتلك الشهادة هل يصدق وينقض الحكم لأنها أصله، أو يمضي ويعد ذلك رجوعًا عن الشهادة‏؟‏ قولان، وقال ابن القاسم‏:‏ يرفع الحاكم للسلطان، وإن كان عدلا لا ينقض قضاؤه، قال سحنون‏:‏ لا يرجع على الشهود بشيء لإنكارهم أصل الشهادة، وقال محمد‏:‏ إذا قالا‏:‏ ما شهدنا، أو قالا‏:‏ شهدنا بالمال للآخر المحكوم عليه، وتيقن القاضي أن الشهادة على ما حكم، غرم القاضي المال للمحكوم عليه لأن الشهود شهدوا بخلاف قوله، ولا يرجع على الشهود، لأنه يقول‏:‏ حكمت بحق، وهو خلاف قول ابن القاسم لأنه نقض الحكم بين الحاكم والمحكوم عليه، وأغرمه المال برجوع البينة، ويلزمه إذا كان الحاكم فقيرًا نزع المال من المحكوم له ويرد للمحكوم عليه، إذا رفع ذلك إلى حاكم غيره، قال محمد‏:‏ وإن قال القاضي‏:‏ أنا أشك ووهمت‏:‏ نقض الحكم بين المحكوم له والمحكوم عليه، ويرجع الأمر إلى ما تقوله البينة الآن، ويغرم المحكوم له ما بين قبضه وبين الذي تشهد الآن به البينة، وإن أنكر الحاكم والمحكوم عليه الحكم فشهدت البينة للمحكوم له بالحكم لزم الحاكم تنفيذه‏.‏

الفرع الثالث‏:‏

في الكتاب‏:‏ إذا مات القاضي أو عزل، وفي ديوانه شهادة إثبات لم يجزها من ولي بعده إلا ببينة، لأن الخط لا يكفي، وإن قال المعزول‏:‏ ما في ديواني قد شهدت به البينة عندي، لم يقبل منه، لأنه الآن ليس بحاكم، ولا أراه شاهدًا، وإن لم تقم بينة على ذلك أمرهم القاضي الجديد بإعادة البينة، للطالب أن يحلف للمطلوب‏:‏ ما شهد عليه بهذه الشهادة فإن نكل حلف الطالب وثبتت له الشهادة، ثم ينظر فيها الجديد كما كان ينظر المعزول‏.‏ في التنبيهات‏:‏ قيل إن أراد بقيام الشبهة قيامها على خطوطهم، ففيه جواز الشهادة على خط الشهود، وليس المشهور، أو إيقاع الشهود بهذه الشهادة عند القاضي، اقتضى جواز الشهادة على مثل هذا، وفيه خلاف، وقد يكون على إشهاد القاضي المتوفى إياهم بقبولها وتوهم، ينظر الجديد كما كان ينظر المعزول، ويفيدنا القاضي على حكم من قبله من غير استئناف، وكذلك إن انتقل من خطة إلى خطة أخرى الحكم، وبه قال ابن عتاب وغيره من القرطبيين، وقيل‏:‏ يستأنف النظر ولا وجه له، لأن المقصود بذل الجهد في كشف ما لم يكشف، وقد كشف ما تقدم، وقال سحنون‏:‏ إذا عزل من مصر وولي غيره بنى على ما ثبت عنده في الولاية المتقدمة، وهو حجة الأول‏.‏

الفرع الرابع‏:‏ في الكتاب‏:‏ إذا كتب قاض إلى قاض فمات الكاتب أو عزل قبل وصول كتابه إلى المكتوب إليه، أو مات المكتوب إليه أو عزل قبل وصول الكتاب إلى وال بعده، فلينفذه من وصل إليه، وإن كان إنما كتب إلى غيره، لأن المقصود تنفيذ ما ثبت من الحكم والحق، كالرجل الواحد في تنفيذ الحق وإبطال الباطل، ويجوز كتب القضاة في القصاص والحدود وغيرها، لجواز الشهادة على ذلك‏.‏

قال ابن يونس‏:‏ قال أشهب‏:‏ يجوز وإن لم يشهد على الكاتب إلا شاهدان، وإن كان كتاب زنى قد شهدت فيه أربعة عند القاضي، لأن المقصود إثبات الثبوت لا إثبات الزنى، قال بعض القرويين‏:‏ أجاز هاهنا شاهدين على أربعة في الزنى ولا فرق، ويحتمل أن ابن القاسم لا يجيز في ذلك إلا أربعة، كالشهادة على الشهادة، وقاله سحنون، وإذا وكلت في محاكمة عند قاض ببلد يعرفك فأردت أن تأخذ منها كتابًا منه إلى قاضي البلد الذي أردته، فإن كان القاضي يعرفك، أو كنت مشهورًا، اكتفى بذلك وإلا كلفك البينة أنك فلان، فإذا ثبت عنده كتب لك‏:‏ أتاني فلان بن فلان، وقد عرفته، أو ثبت عندك بعدلين، وذكر أنه جارًا في البصرة في موضع، ويحدها، وأنه وكل فلانًا للخصومة فيها، فترى في ذلك رأيك، وتقرؤه على شاهدين ويختمه وتشهد ما عليه أنه كتابه وخاتمه وتخلي الشاهدين، وهو أحسن، ويجوز ترك ذلك، وكان سحنون لا يقبل كتاب قاض من قضاته إلا بشاهدين، ولا يفكه إلا بمحضرهما، وكان يعرف خط بعض قضاته ولا يقبله لا بشاهدين، وكان يطبع جوابه إلى القضاة ولا يشهد عليه، ويقبل كتب أمنائه وينفذ بغير بينة ويأمرهم بإحراز كتبهم، ويرفعها عند أعوانه، واختلف في شاهد ويمين على كتاب القاضي في الأموال‏:‏ منعه في الموازية، وأجازه في غيرها، قال سحنون‏:‏ يجوز في كتاب القاضي رجل وامرأتان فيما تجوز فيه شهادة النساء، قال مالك‏:‏ من الأمر القديم أجازه الخواتم حتى أتهم الناس فاشترطوا الشهادة، قال‏:‏ والناس اليوم على أن من جاء من أعراض المدينة أجازوه بمعرفته طابعه وخطه وجوابه في الحقوق اليسيرة‏.‏ وفي النوادر‏:‏ قال ابن كنانة‏:‏ إذا كتب قاض إلى قاض في عبد‏:‏ أن فلانًا أقام ببينة أن عبده ابق منه، يعرفه بعينه واسمه ولغته منذ كذا، لم يبعه ولا خرج عن ملكه،

وشهدت البينة عند القاضي الثاني بالكتاب، فأنكر العبد أن يكون مولى يرق بذلك حتى يعينه الشهود الأول، وإنما ينفع هذا في عبد حبسه الإمام لا يدعيه أحد وهو مقر بالرق، أو أرض لا يدعيها أحد، أو دين على رجل، وأما ما تقدم فلا يقضي به بالصفة، لأن الصفات تشتبه، وأجازه ابن القاسم، لأن الصفة يذكر فيها ما ينزل الشركة فيه، قال سحنون‏:‏ ولم يخالف ابن القاسم غير ابن كنانة ولا أعلم في الرق إلا إقامة البينة على الغائب بالذين يكفي فيها اسمه ونسبته وصفته، ويكتب بذلك إلى قاضي بلده، فكذلك العبد، قال سحنون‏:‏ وإذا وصل الكتاب بالعبد الموصوف فوجد في يدي أبويه وهما حران يدعيانه، وهو معروف النسب، ولد على فراش الأب، وهما حران في الأصل فليكتب إلى باعث الكتاب بما ثبت عنده فيأخذ لهذا الثمن من بائعه، وإن كان غير معروف النسب، ولا ولد عنده، حكم بالكتاب وسلمه، وهو قياس قول أصحابنا، قال محمد‏:‏ وإذا ثبت للقاضي الأول العبد الغائب بالصفة كما تقدم، حلف المستحق‏:‏ ما باع ولا وهب ولا خرج عن ملكه إلى الآن، قاله ابن القاسم وأشهب، وقال أصبغ‏:‏ فإن لم يعلم موضع عبده فسأل القاضي كتابًا إلى أي قاض احتاج إليه، كتب له‏:‏ هذا كتاب من القاضي فلان الفلاني إلى من ورد عليه كتابي هذا من الحكام، ويذكر ما ثبت عنده وثبت على القاضي الآخر بشاهدين، وينفذه‏.‏ قال ابن وهب‏:‏ فإن كتب في عبد فوجد في بلد المكتوب إليه عبدان على الصفة التي في الكتاب أحدهما يدعي الحرية، والآخر عند رجل يدعيه، نظر المكتوب إليه في بيته ولا يشخصه معه، فإن ثبتت حريته اعتقه وأبطل كتاب المستحق، وإلا رفعه إليه إن لم يكن على صفته في البلد، وإلا فلابد ‏(‏من‏)‏ بينة على عينه لعدم تعينه، وكذلك المستحق عليهم

الديون، ويكتب القاضي في الابن يثبت عنده أن فلاناَ سرقه وهو حر، كما يكتب في العبيد ويكتب في الأحرار الصغار الأب والأم والجد والجدة والأخ والأخت وكل ذي رحم، أو أجنبي احتسب في ذلك، لأن الحرية حق لله، وقيل‏:‏ لا يكتب في الأحرار إلا الأب والأم والزوج يدعي المرأة، ويكتب للولد في الوالديُن، قال سحنون‏:‏ وهذا خطأ، قال سحنون‏:‏ ولا بد في كتاب القاضي من نسبه إلى أبيه، وفخذه، وما هو مشهور، وحليته، ومسكنه، فإن مات المقضي عليه الغائب قبل تاريخ كتاب القاضي أو بعده، أحضر المكتوبُ إليه الورثة وقرأه عليهم ومكَنهم من حجتهم إذا كبروا أن تقادم موتهُ بما لا يمكن أن يكون الطالب أدركه، إلا أن يكون في كتاب القاضي ما يقتضي أن الدين عليه فينفذه، وإن جاء كتاب القاضي بدار في موضع كذا معروف وليس فيه حدود، لم ينفذ إلا أن تشهد البينة بالموضع بحدودها، وكذلك لو حدد بحدين أو ثلاثة، ولم ينسبوها إلى اسْم مشهور جاز، ولا ينفذ الحاكمُ في الغائب إذا وُجد على صفته اثنان، أو فقدت صفة مما في الكتاب، قاله سحنون‏.‏ قال ابنُ القاسم‏:‏ إذا أخذ كتاب قاضي مصر إلى قاضي إفريقية فوجد غريمه بطرابلس لا ينظر قاضيها في ذلك إذا لم يعرف المكتوب المعدي عليه عند المكتوب إليه، فإذا جهله لم ينفذ ذلك إلا قاضي بلده، ولعل ببلده يميزه فيعَتذر التنفيذ، فإن أقام المكتوب له البينة أنه هو المكتوب فيه، نفذه هذا كما يقضي له غير المكتوب إليه إن عُزل أو مات، وكتب القضاة يجوز في جميع الحقوق، وإذا َشهِدتْ لرجل امرأة عند قاض فيما تجوز فيه شهادتُها‏:‏ فله أن يكتب، فإذا كتب لم يحكم له بشهادة رجل، أو يأتي بشاهد على أصل الحق، ويقضي له بشاهد ويمين في الأموال، وإذا أراد أن يزكي رجلا ببينة بمصر، ويحمل ذلك إلى غيرها من يزكيها، فله

ذلك، قال سحنون‏:‏ ولها ذلك كشهادة أديتها عند من ينظر فيأمر الناس، ولو أن هذا الناظر في أمر الناس كتب إلى قاضي بلده بمثل ذلك لم يجز لأنه لا يدري صدق ذلك من كذبه، قال ابن القاسم‏:‏ يقبل كتاب القاضي بشاهدين وإن لم يكن فيه خاتمه، أو كان بطابع فانكسر‏.‏ قال أشهب‏:‏ لا يكفي في هذا كتاب القاضي حتى يُشهدوا أنه أشهدهم، وجوز عبد الملك الاقتصار على أن هذا كتاب القاضي‏.‏ قال أشهب‏:‏ ولو شهدوا أن هذا خاتمهُ، ولم يشهدوا أن الكتاب كتابه لم ينفع، لأن الخاتم يزور، وإذا شهدوا على كتاب القاضي بخاتمه وخواتمهم ثبتت شهادتُهم على ما في الكتاب، فإن لم يكن لهم خواتم، وشهدوا أنهم قرروه عليه، وأشهدهم بما فيه، وحفظوه أو معهم نسخ قُبلت، وكذلك لو لم يختم القاضي إذا كتبوا شهادتهم وحفظوها ومعهم نسخ كِصكَاك الحقوق، قال مطرف‏:‏ ولا ينفذ بشهادتهم أنه خط القاضي، كما لا تجوز الشهادة على خط القضاة في الأحكام، ولا على خط الشهود، وإذا كاتبه فسأله عَدالةَ شاهد أو غيره، قبل كتابته بغير شهود إذا عرف خطه، أو أَتَى به ثقة، ما لم يكن فيه قضية قاطعة، أو كتاب هو ابتداَءه، أو أتاه به الخصم، ويقبل أيضاَ بالثقة من غير عدول كتابَ مَن يكاتب في عمله في أموال الناس، وتنفذ الأقضية ُلِقرب المسافة، واستدراكِ ما يخشى فوتُه، ويجوز في كتاب القاضي الشهادة على الشهادة، وإذا كان الكتاب مختوماَ غيرَ مضمون، فيَشهد عدلان أنه إليه، والخصم حاضر، فليفتحْه، فإذا شهدوا على الكتاب والخاتم نفذه، وإن لم يكن فيه اسم القاضي المرسِل، ولا ِاسم المرسل إليه وأسْماؤهما دون أسماء الأباء، أو نسب القاضي لهذه، أو أخطأ في اسمه أو اسم أبيه أو نسبه إذا أشبه إلى المصر الذي هو عليه، قال ابن القاسم‏:‏ ولا يقبل الكتاب بشاهد ويمين، لأنها شهادة على شهادة‏.‏ قال ابن عبد الحكَم‏:‏ ولا يقبل على الكتاب شهود الأصل وفيه‏:‏

أنه قد عدلهما ولكن يشهدون به، وعن مالك‏:‏ إذا اشهده على الكتاب مطبوعاَ ولم يقرأه، شهد به ويقول‏:‏ أعطانيه مطبوعاَ، فإن دفعه إلى جماعة كذلك، وهو في يد أحدهم، شهد الذي هو في يده‏.‏ وشهد الآخرون إنْ عَرَفوا طاَبعه وكتابه، وإن ختموا عليه ودفعوه إليه فعرفوا خواتيمهم شهدوا به، قال أصبغ‏:‏ فإن لم يعرفوا خواتيمهم لا يشهدون وإن كان الذي بيده الكتابُ عدل حتى يعرف الكتاب، وإذا عرف القاضي المكتوبُ إليه القاضي الكاتب بأهلية القضاء والدَين والوَرع، وأنه غير مخدوع، قبل كتابه، ولا يقبل كتاب غير العدل، لأنه لا تجوز شهادته، فإن كتب العدلُ أن بينتَه ثبتت عندي لا يجيزه، لأنه كالشاهد، فإن نفذه فلا يفسخه مَن ولي بعده، قال أشهب‏:‏ غير المأمون في حالة المتناهي في حالة، لا يجيز كتابه ولا شيئاَ من أمور إلا ما شك فيه، قال أصبغ‏:‏ فإن لم يعرفه بعدالة ولا سخطة، وهو من قضاة الأمصار الكبار كالمدينة نفذه، لأن ظاهر الحال الأهلية ولا ينفذوه من قضاة الكور الصغار حتى يسأل العدول عن حاله، قال سحنون‏:‏ ولا يكتب قضاة الكور إلى قاضي مصر ونحوها، بل يكتبون إلى قاضيهم الكبير، فيكتب إلى قاضي مصر، ولا ينفذ كتاب قضاة الكور وولاة المياه إلى قاضى بلد آخر، وأنظر قول مالك‏:‏ إن وُلاة المياه يضربون أجل المفقود، فلابُد أن يكتبوا إلى العران، ويطلب أبداَ المكتوب إليه بمجرد ورُود الكتاب‏:‏ الخصَم إنَ كان حاضراَ أو قريب الغيبة، ثم يسأله البينة على كتاب القاضي‏.‏ فإذا قبل البينة، فَتَح الكتاب بمحضر الخصم فقرأَه عليه، ثم يختمه ويكتب عليه اسمَ صَحبه، فإن كان بعيد الغيبة نفذه، فإذا قدم الغائب أعلمه وأمكنه من حجته، ولا يكتب الأصل أيضاَ إلا بمحضر المكتوب عليه والإعذار إليه، وإن ثبت أن حضره وكيل الطالب والخصم حاضر، فتح الكتاب، فإن أنكر المطلوب أنه فلان بن فلان المشهودُ عليه، أثبت الوكيل ذلك، إلا أن يكون مشهوراَ بالاسم والكنية، ولو كان الكتابُ لرجلين حضر أحدهما مع الخصم أنفذه له، ثم إذا حضر الغائب أنفذه ولا يعيد البينة، قال سحنون‏:‏ ويكتب في الكتاب اسمَ الشهود، وأنسابَهم، وما يُعرفون به، وكذلك مَن زكوهم حتى يعرف ذلك المشهودُ عليه فيدفع ما يقدر عليه، وللذي جاءه الكتاب أن يكتب بما جاءه من ذلك إلى قاض آخر، وعن ابن القاسم‏:‏ يجوز قوله في كتاب عدول‏:‏ قبلتَ شهادتَهم وإن لم يسمَهم، قال ابن ِكناَنة‏:‏ إن قَدم بالكتاب وكيلُ الطالب فادعَى المطلوبُ الوفاء وسأل التأخير ليحَلف الطالب، الزم ولم يؤخر، وحلف الوكيل أنه ما يعلم ذلك إلا في غيبة الطالب نحو اليوم، فيكتب إليه فيحلف، وقال ابن القاسم‏:‏ لا يحلف الوكيل ولا ينظر الطالب، قال غيرهُ‏:‏ ولا ينبغي للقاضي أن يكتب له الكتاب حتى يحلفه، قال سحنون‏:‏ لا أعلم خلافاَ أن موت أحدهما أو عزلَه، أعنى الكتابَ والمكتوب إليه، لا يضر في القضاة، وقاله عبد الملك‏.‏ ذلك كله إذا مات المكتوب إليه بعد وصول المكتوب له، وأما إن مات قبل أنْ يسافر الرجل، وقد فرق شهوده، وقد أشهد عليه بينة مضى وإلا بطََل، وإذا وجد كتاب الخليفة عند حكام مفتوحاَ، وأشهد أنه قبله، ثم ظهر أن الخليفة مات قبل القبول، بطل كما يبطل في الرئيس للعامل تحت يداه، وإذا قبل عامل كتابًا ولم يحكم به حتى عزل أمضاهُ من بعده بشاهدين عليه، وإذا كتب إلى من يعتقد خلاف مذهب الكاتب في ذلك الحد، وكتب‏:‏ حكمت به وأنفذته، أقام ذلك الحد، وإن كتب إنه ثبتَ عنده فقط لا ينفذه، كما أن من أمَر إمَام عادل بإقامة حد وهو لا يعلمه، أَقامهُ، وإن لم يعلَم عدالتَهُ لا يوافقهَُ، وأجمعت الأمة على مكاتبة القضاة بما ثبت عندها، وقياساَ على الشهادة بجامع الضرورة، ووافقنا الأئِمة فيما تقدم من حيث الجملة، لما في مسلم‏:‏ قال الضحًاك بن سفيان‏:‏ ‏(‏ولاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بعض الأعراب ثم كتب إليً أنً أورث امرأة أَشيمَ بتسكين الشين المنقوطة، وفتح الياء بنقطتين تحته الضبابي بِكسر الضاد المنقوطة من ديًة زوجها،

فورثها‏)‏ لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك، وخالفونا في مسائل، فعند ‏(‏ش‏)‏ وأحمد، و‏(‏ح‏)‏‏:‏ يكتب قاضي القرية إلى قاضي المصر، وبالعكس، ولا يقبل مع القرب الذي لا يقبل فيه الشهادة على الشهادة، وجوز ‏(‏ح‏)‏ وأحمد‏:‏ من قاض في أحد طرفي البلد لقاض في الطرف الآخر قياساَ على المسافة البعيدة، والفرق‏:‏ الضرر والتعذر، ولم أرَ لنا فيه نقلاَ، وقال الأئِمة‏:‏ لا يكتب في الحقوق البعيدة المعينة على الصفة إذا أمكن التباسُها بغيرها لأجل جهالة العين نحو الثوب المعين، ولا يقبل كتاب القاضي عند ‏(‏ح‏)‏ وابن حنبل في الحدود والقصاص، لأنها تندفع بالشبهة، ولأن موُجب الكتاب مطالبةُ الخصم وهو غير موجود، لأن الحدود يطْلب إعدامُها وإخفاء أسبابها، وترك الكتاب يُفضي إلى ذلك‏.‏

وجـــواب الأول‏:‏ أنً تَوقُع الشبهة لا يمنع، كتوقع تخريج بينة الأصل0 وجـــواب الثـاني‏:‏ أن الله تعالى أمر بحقوقه، وأمره أعظم من المطالبة‏.‏

وجواب الـثالث‏:‏ أنها مطلوبة الإعدام قبل الثبوت أما بعده فلا، واشترطوا البينة مثلنا دون معرفة الخط، وإذا أخلي المكتوب من اسم المكتوب إليه، جوزه ‏(‏ش‏)‏ دون ‏(‏ح‏)‏، لأن المعول على شهادة الشاهدين على الكتاب، وجوز ‏(‏ش‏)‏ ترك الخْتم دون أبي يوسف، ‏(‏لأنه - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ كتاباَ إلى قيصر ولم يخْتمه، فقيل له - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ إنه لا يقرأ كتاباَ غيَر مختوم فاتًخذ الخاتم‏)‏ ومنع ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏ أنً يُشهدهما على الكتاب المختوم لأنه مجهول، فلا تصح الشهادةُ به، كما لو شهدا أن لفلان مالا، ولا يقبل المكتوب إليه على الكاتب في كتابه رجلا وامرأتين عند ‏(‏ش‏)‏ خلافاَ ل‏(‏ح‏)‏، وعند ‏(‏ش‏)‏‏:‏ لا يكتب إلا مَن ليس له أهلية القضاء، وأصولُنا تقتضيه، ويكتب الرجل إذا حكًمه الخصماِن كما يحكم القاضي،

فيكتب، ولم أرَ لنا فيه نقلاَ، وإذا مات القاضي الكَاتب، أو عزُل، أو بطلت أهليته قبل وصول الكتاب‏:‏ قال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا يقبله المكتوب إليه، لأنً موته قبل ثبوته عند المكتوب إليه، كموت شاهد في الفرع قبل ثبوت شهادته عند الحاكم المكتوب إليه، وعند ‏(‏ش‏)‏ وابنِ حنبل‏:‏ يقبل كما لو كان حياَ إن كان المكتوبُ إليه من قبل الكتاب، وإلا فقولان، له لنا نحن إنه حُكم تبث فينفذ مطلقاَ، لأنه حق، والحق واجب اتباعه، فإن مات المكتوب إليه، أو بطلت أهليتهُ، أو عزل، بطل الكتاب، ووافقنا ‏(‏ش‏)‏‏.‏

فـرع‏:‏

في الجواهر‏:‏ لو شهِدت البينةُ بخلاف ما في الكتاب، جاز إذا طابقت الدعوى، لأنها هي المقصود‏.‏

فــرع

قال‏:‏ إذا قال القاضي‏:‏ أشهدتكما أنً ما في الكتاب خَطًى جاز على أحد الروايتين، أو ما في الكتاب حكمي، أو قال المقر‏:‏ أشهدتك على ما في القَبالة، وأنا عالم به، فحفظ الشاهد القَبالة وما فيه، وشهد على إقراره، جاز على إحدى الروايتين، لأن الإقرار بالمجهول جائز‏.‏

فــرع

قال‏:‏ لابد من ظهور عدالة البينة عند المكتوب إليه، وَلا يكفي أن تدعيها لهما في ذلك الكتاب الذي إنما ثبت بشهادتهما، ولا بد من أن يشهدوا أن هذا الكتاب كتابُ فلان القاضي، وزاد أشهب‏:‏ وأنه أشهدنا عليه، ورَوَى ابنُ وهب‏:‏ أنه أشهدهم بما فيه‏.‏

فـرع

قال‏:‏ إنْ قال المحكوم عليه‏:‏ أنا أجرح بينة الأصل التي شهدت علي، ويتعذر علي ذلك إلا في بلدهم، لا يمهل بل يسلم المال، فإن ظهر الجَرح استرده‏.‏

فــرع

قال التونسي‏:‏ اختلف في شاهد ويمين في الأموال، منعه في المـوازية وجوزه في غيرها نظراَ لكونه حكماَ بدَينِ أو لأن المقصود المال‏.‏